لم ألاحظ أن الرأي العام الأردني منفعل بجدية بالمعركة النيابية لإسقاط حكومة د. عبدالله النسور في حال عدم تلبيتها للمطالب التي طُرحت في ماراثون الخطابات الغاضبة على جريمة اغتيال القاضي رائد الزعيتر، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. وداخل مجلس النواب نفسه، هناك إحساس ما بالتورط؛ فالمطالب ارتدت بالموقف إلى صدام داخلي غير مجد. وفي تقديري أن الناس تتفهم أكثر الصدام مع الحكومة حول قضايا داخلية ومعيشية، لأن القرار في القضايا الخارجية والصراع العربي-الإسرائيلي ليس قرارا حكوميا، كما يعرف كل مواطن في البلد.
السؤال الذي تتوجب الإجابة عنه هو: هل إسقاط الحكومة سوف يعني استبدالها بحكومة تحقق المطالب المطروحة؛ مثل "طرد" السفير الإسرائيلي، أو إلغاء معاهدة وادي عربة؟ من هو رئيس الوزراء الجديد الذي سينفذ هذه المطالب؟!
دعوني أذكر أن مصر التي عقدت مثلنا معاهدة سلام مع إسرائيل، وأقامت تمثيلا دبلوماسيا معها، شهدت إطاحة بالنظام ذاته الذي أبرم المعاهدة، وجاءت سلطة كانت في أقصى المعارضة، لكن أول إعلان لها كان احترام المعاهدات والتزامات مصر الدولية! وتبادل الرئيس محمد مرسي رسائل ودودة مع نظيره الإسرائيلي. ثم جاء الانقلاب الثاني على هذه السلطة، ليؤكد مجددا ثبات مصر على التزاماتها، ومنها المعاهدة مع إسرائيل!
والحق أن هذا يحدث في العادة في الدول التي تشهد تغييرات أو انقلابات على السلطة القائمة؛ إذ يكون أول ما تبادر إليه السلطة الجديدة هو طمأنة المجتمع الدولي إلى التزامها بكل ما وقعته الدولة في عهود سابقة من مواثيق ومعاهدات واتفاقات خارجية.
معارضة "وادي عربة" والعلاقة الدبلوماسية مع الصهاينة المحتلين، هي أمر مشروع. وأنا لم أكن في أي يوم مع الاتفاقية، ولم أؤيدها في حينه. لكنها وقد أصبحت أمرا واقعا وقرار دولة ترتب عليه ما ترتب في ظل ظروف نعرفها، فإنني لم أرفع يوما شعارات إسقاطها؛ فهذا كلام مجاني في الهواء، ومن يقوله سيكون أول من يتخلى عنه حين يصبح في موقع القرار، إذ سيكون مجبرا على سلوك واقعي حفاظا على بلده ودولته. وهذه هي حال الحكومة الحالية، وستكون حال أي حكومة تحل محلها، والرأي العام يعي ذلك جيدا.
قلنا إن ردّة الفعل العفوية على جريمة اغتيال القاضي الزعيتر جسدت الوحدة الوطنية بأجلى صورها وأحلى معانيها. وقد كانت الغضبة الشاملة على جميع المستويات، محقة وحقيقية. لكن الاستثمار فيها للمناكفة الداخلية لم يكن صحيحا. ولذلك، فالرأي العام الآن ليس مستثارا كثيرا بهذه المعركة الداخلية تحت القبة.
والمطالب التي طُرحت يمكن قبولها كتعبير عن الموقف الشعبي الذي يوجه رسالة بأن الصلح على المستوى الرسمي لا يعني صلح الشعوب، بل كما كان يردد المغفور له الحسين العظيم، بأن الصلح العادل هو الذي تقبل به الأجيال وتعيش معه. والشعوب ليست راضية عن المعاهدات التي وقعت، ولا تعتبرها سلاما حقيقيا، إلى أن تنتهي الغطرسة والعدوانية الإسرائيليتان، ويحقق الشعب الفلسطيني أمله في دولة مستقلة على أرضه.
إذا كانت الغالبية من الرأي العام (كما أعتقد وألاحظ) غير مقتنعة باستخدام المطالب كموضوع لمحاصرة الحكومة وإسقاطها، وإذا كانت غالبية من النواب تملك نفس القناعة، فإن يوم الثلاثاء لن يشهد شيئا دراميا. وقد لا يتم تقديم طلب للتصويت على الثقة بالحكومة، لأنه سيكون بمثابة إهداء ثقة جديدة لها.
وربما سيتم الاكتفاء بتعبير كل طرف عن رأيه بالتقرير الذي ستقدمه الحكومة، ويتضمن تلبية لجزء من المطالب، وتلميحا إلى تلبية البعض الآخر لاحقا، لكن من دون اقتراب من موضوع السفارة والمعاهدة.
(الغد)