عمون - معروف علميا أن الديك لا يبيض، إلا أنّ بيضته صارت مثلاً يُضرب، فيُقال "بيضة الديك" للشيء الذي لا نظير له. ويُقال "بيضة الديك" أيضا للشيء الذي لا يؤمّل ولا يُنتظر، وكأنه قد صار صِنْوًا للمستحيلات الثلاثة.
وقالوا في الأمثال "لا تجعلها بيضة الديك"، وهذا من التعابير المأثورة. وأصل المثل أن الديك في زعم بعض الناس قديما يبيض مرة واحدة. وحتى الآن، فإن قرى في جزيرة العرب تعتقد أن الديك يبيض في العمر مرة واحدة، وتبيع ما تدّعي بأنها بيضة الديك في أسواقها بثمن أعلى بأضعاف أضعاف البيضة العادية.
ويقال بيضة الديك للشيء مستحيل الوجود، أو الذي لا يقع إلا مرة واحدة، ومثال ذلك قول الشاعر بشار بن برد لمحبوبته: "قد زرتنا مرة في الدهر واحدة... ثنّي ولا تجعليها بيضة الديك".
إذن، سابقا، يقال "بيضة الديك" لكل من يفعل أفعالا يعجز عنها الناس في ذاك الوقت، وكل من يحقق أمورا جامعة، ويجد لنفسه مكانا في قلوب الناس. وفي كل فترة زمنية كان يقال "بيضة الديك" عن شخص أو اثنين في ذاك الزمان، يشكلون عند الناس نقطة إجماع والتقاء، ولهم السؤدد في كل مقام، ولرأيهم احترام عند الكبير والصغير؛ فبقيت الأمور على حالها وبات لكل فترة زمنية "بيضة ديكها" التي لا يمكن الاستغناء عنها.
مع تطور الأحداث والأزمان، تبدلت الناس والأنفس، فجلس الجاهل مكان الخبير، والمهرج مكان الفطين، فعدنا للوراء، ولم نعد نبحث أو نكترث ببيضة ديكنا، فوضعناها على الرف، واستبدلناها بصيصان لا يجيدون إلا البحث عن حبة القمح.
لا أريد الخلط بين الماضي والحاضر، وبين استحالة أن يبيض الديك أو أن يتسع صدرنا لكل تطور إصلاحي وفكر تنويري، وكل دعوة تهدف للوصول إلى الدولة المدنية التي نبحث عنها والتي من شأنها أن تضعنا على سكة العمل الحقيقي.
في عصرنا اختلفت الأنفس واختلف معها الناس، فلم يعد للحكماء مكان حقيقي، وبتنا نتأثر بأفعال الصغار أكثر من تأثرنا وتعلمنا من الكبار، وتعددت المرجعيات والأفكار، فاختلط الحابل بالنابل ولم يعد للأفكار الحقيقية التنويرية متسعا عندنا إلا ما ندر، وأكثر ما أصبحنا نفعله هو هَجو زماننا من دون أن نستشعر أن العيب فينا، ومن دون أن نفكر بإصلاح حالنا وفكرنا، حتى نستطيع مستقبلا إصلاح مستقبلنا.
لا نريد أن يكون توجهنا الإصلاحي كـ"بيضة الديك" يأتي مرة واحدة ولا يعود، ولا نريد أن يكون حديثنا عن الدولة المدنية لا يأتي إلا مرة واحدة ولا يعود، ولا نريد أن يكون كلامنا عن الإصلاح كلام ليل تذروه الرياح.
في اعتقادي أن علينا جميعا، حكومة ونوابا وأعيانا وأحزابا ومؤسسات مجتمع مدني، وقطاعات شبابية ونسوية وطلابية وأفرادا، البحث بشكل حقيقي وواقعي إن كنا نريد الإصلاح الحقيقي والواقعي، بأن لا نقتل كل الأفكار التنويرية والإصلاحية التي من شأنها نقلنا إلى خانة الدولة المدنية الإصلاحية الجامعة التي تتسع لجميع أفراد المجتمع ولكل الأفكار ووجهات النظر.
في واقعنا الحالي، لا بد لنا من أن نبحث عن أساس واضح لإصلاحنا من دون أن نترك لمتصيدين كثر وضع العصيّ في دواليبنا، ومن دون أن يكون لنا دور حقيقي لكي نذهب بدولتنا للإصلاح المنشود الذي يعني بناء دولة مدنية تقوم على المواطنة وتعزيز مبدأ الحريات وحرية التعبير، واحترام الرأي والرأي الآخر من دون تشهير وتخوين واتهامات.