كنت أتابع بألم الحوار الذي جرى مع جلالة الملك عبدالله الثاني في منزل الدكتور عبد الرزاق طبيشات في اربد، ومصدر ألمي أن الحوار إنصبَّ على جزيئات وتفاصيل، كان يجب أن لا تصل إلى جلالة الملك، لو أن سائر أجهزة الدولة تقوم بواجباتها، خاصة وأن جل ما طرح بين يدي جلالته كانت قضايا « معلقة « مثل قانون الإستثمار، والعقبات الإدارية التي تقف حجر عثرة أمام المستثمرين، ومثل حصة البلديات من المحروقات، وضرورة تطبيق القانون في هذا المجال، ومثل مشكلات مستشفى الملك المؤسس في جامعة العلوم والتكنولوجيا، إلى آخر ما أثير من قضايا تفصيلية، لا يحتاج اكثرها إلا إلى متابعة من الأجهزة المعنية في الحكومة.. فالأصل أن لا تصل هذه التفاصيل إلى مقام جلالته، الذي يجب أن نوفر له الوقت والمناخ المناسب، لوضع الإستراتيجيات الوطنية لكل قطاع من قطاعات الدولة، ومن ثم متابعة تنفيذها، دون أن نثقل أوقات جلالته بالتفاصيل التي يجب أن تحاسب الأجهزة على عدم القيام بأدوارها في تنفيذها، بعد أن أشبعناها حديثاً، وشبعنا شكوى منها، سواء في قضايا الإستثمار، أو قضايا البلديات أو قضايا الضرائب، أو قصور الخدمات الصحية... الخ
وحتى يتفرغ جلالته لوضع الإستراتيجيات الوطنية ومتابعتها، علينا أن نغير نظرتنا إلى طبيعة اللقاءات مع جلالته، فلا نعتبرها فرصة لبث الشكوى، أو لتحقيق المكاسب الجهوية والمناطقية، بل فرصةً لفهم التوجيهات الوطنية والإقليمية والدولية، من خلال ما يتوفر لدى جلالته من كمّ معلومات بفضل شبكة علاقات جلالته ومصادر معلوماته الموثوقة. ومن ثم يكون واجبنا إثراء اللقاء مع جلالته بالأفكار والرؤى الإستراتيجية، عبر تقديم تصورات متكاملة حول القضايا الوطنية، التي نرغب في طرحها أمام جلالته، لأن ذلك هو الذي يتفق مع دور ومهمة جلالته كقائد للمسيرة، من جهة، ويتفق أيضاً مع نمط تفكير جلالته ونظرته للأمور، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما تم التطرق إلى مشاكل مدينة أربد، فطلب جلالته وضع خطة شاملة لمشكلات المدينة وتصورات لحلها، واحتياجات تنفيذ هذه الخطة، على أن يضع ذلك كله فريق عمل متكامل خلال مدة محددة.. وقد وجه جلالته رئيس بلدية أربد إلى ذلك.
وحتى نرتفع إلى مستوى المسؤولية في حواراتنا بين يدي جلالة الملك، علينا أن ننتقل بهذه الحوارات من التركيز على مظاهر المشكلات إلى أسبابها الحقيقية، من ذلك على سبيل المثال أننا في حديثنا عن الأزمة الإقتصادية، وما ينجم عنها من آثار أبرزها البطالة، نركز على محورين في الغالب الأعم، أولهما: محور المساعدات الخارجية؛ وثانيهما جلب الإستثمارت الخارجية، وكلاهما لا يتعلق القرار حولهما بنا، بل بالآخرين، الذين علينا أن نقنعهم بالمجيء إلينا من خلال توفير مناخات إستثمارية مناسبة، أو نقنعهم بمساعدتنا من خلال تقديم أدلة تؤكد حاجتهم لنا، ونؤكد لهم بأن إستقرار الأردن هو البوابة لاستقرار المنطقة، ومن ثم إستقرارهم، وهو ما يعمل من أجله جلالته، وعلينا أن نكون عوناً له للوصول إلى ذلك. غير أن الأهم من بذل الجهد مع الخارج على أهميته، هو أن نبادر إلى معالجة الاختلالات الاقتصادية الداخلية، وأول هذه الاختلالات، هو الإختلال البنيوي في منظومة القيم التي تحكم سلوك الأردنيين، خاصة في جانبها الإقتصادي وهو الاختلال الذي حوَّل الأردنيين من منتجين يأكلون مما يزرعون، إلى مجرد مستهلكين بفعل ثقافة العيب التي تملكتنا، فصار شبابنا يقبلون بالتسول والإعالة، على أن يعملوا بالمهن اليدوية في قطاعات إقتصادية هامة، صارت أجزاء إستراتيجية منها بيد العمالة الوافدة، مما يستدعي منا إعادة النظر في مضامين ثقافتنا ومن ثم منظومة القيم التي تحكمنا، خاصة في جوانب السلوك الإقتصادي، وذلك من خلال إعادة النظر بمضامين مناهجنا المدرسية ومنابرنا الإعلامية، وقنواتنا الثقافية، وطبيعة الثقافة التي تبنيها هذه المناهج والمنابر والقنوات. بحيث تصبح قيمة الإنسان مرتبطة بما ينتج، لا بالوظيفة التي يشغلها. وهذا يقودنا إلى ضرورة أن نفتح ملف الوعي الإجتماعي في بلدنا، بإعتباره مدخلاً لحل الكثير من مشكلاتنا، وأولها المشكلة الإقتصادية: فهل يعقل أن يوفر بلدنا مليون فرصة عمل على أرضه للوافدين، ثم يعجز عن توفير فرص عمل لأقل من ذلك بكثير لأبنائه.
ومثل مشكلة البطالة كإفراز من إفرازات الخلل البنيوي في منظومة القيم لدينا، كذلك تبرز مشكلة أهمية إقبال الأردنيين على الإستثمار في بلدهم من خلال إعادة أموالهم المهاجرة وتوظيفها في الإستثمار داخل الأردن، فذلك أولى بكثير من إستثمارت غير الأردنيين على أهميتها. وهذه واحدة متعلقة بمفهوم الولاء والإنتماء، وهذا أيضاً إفراز من إفرازات الخلل البنيوي في منظومة القيم التي تحكم سلوك الأردنيين. وهي من القضايا الكبرى التي يجب أن نعين جلالة الملك على التصدي لها.. فهل نفعلها؟ فينعكس ذلك على حواراتنا بين يدي جلالة الملك ؟ "الراي"
Bilal.tall@yahoo.com