تحولت قطر من قوة ناعمة إلى قوة فاعلة على مدى عقد من الزمان، مما اثار حفيظة البعض ممن كانوا ينظرون اليها باعتبارها تابعا تتلقى الاوامر والتعليمات والاملاءات، وهالهم ان يروا فاعلية الدبلوماسية القطرية، عربيا واقليميا ودوليا، واخذوا يكيدون لدولة قطر في السر والعلن، وسلطوا عليها شياطين اعلامهم وابواقهم الاثمة من كل حدب وصوب.
التوجهات القطرية لم ترق للبعض، ممن اعتبروا ان "تمدد" الدبلوماسية القطرية خارج حدودها "كفرا يستحق التوبة"، ومن هنا بدأت "الحركشات" وتوجيه اللوم والنقد والتجريح وتشويه السمعة والشيطنة، دون ان ترد الدوحة على هذه الاساءات.
الا ان الامور تفجرت في النهاية على شكل سحب سفراء السعودية والامارات والبحرين من الدوحة، وعللت هذه الدول قرارها في بيان ثلاثي جاء فيه ان قطر رفضت السير،"ضمن إطار سياسة موحدة لدول المجلس" وفسر هذه السياسة "بالالتزام بالاتفاقيات الموقعة بينها، بما في ذلك الاتفاقية الأمنية، والالتزام بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر، وعدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد، سواء عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي، وعدم دعم الإعلام المعادي".
هذه الصيغة تكشف عقلية "الاملاءات" التي تفرضها دولة منتصرة على دولة خاسرة في حرب، وكانه لا راي لها ولا قرار في الموافقة او عدم الموفقة على هذه الاتفاقية او تلك، وخاصة اذا كانت اتفاقية امنية لا تعني سوى "استعداء الشعوب وحكمها بالحديد والنار" وهو ما لا تحتاجه قطر، فنسبة الرضى عن الحياة في قطر تتجاوز 96% ، وهي من اكثر الدول امنا في العالم، والعلاقة بين المواطنين مع نظام الحكم طيبة، وغالبية المقيمين يعلنون ولاءهم وانتماءهم لقطر واهلها وحكومتها، مما ينفي الحاجة إلى "اجراءات امنية تعمل على خلق دولة بوليسية"، وهناك ما يكفي من القوانين التي تضمن معاقبة من يسيء او يخرج على النظام او المنظومة الاجتماعية في اطار من العدالة وليس الاستبداد والتسلط، فهل هذا الوضع يهدد امن السعودية والامارات والبحرين؟
بالتاكيد لا .. لكن القضية هي انهم يريدون لقطر ان تكون على شاكلة اوضاعهم وقوانينهم، ويكفي هنا ان اشير إلى ان قانون الارهاب السعودي الذي صدر قبل يومين يحول البشرية كلها إلى متهمين وليس الشعب في السعودية فقط، فهو يحظر المظاهرات والاجتماعات و الندوات او المؤتمرات "داخل السعودية وخارجها" او اظهار التعاطف او المشاركة في جميع وسائل الإعلام المسموعة، أو المقروءة، أو المرئية، ووسائل التواصل الاجتماعي بشتى أنواعها، المسموعة، أو المقروءة، أو المرئية، ومواقع الإنترنت،أو تداول مضامينها بأي صورة كانت، أو استخدام شعارات هذه الجماعات والتيارات، أو أي رموز تدل على تأييدها أو التعاطف معها. وللمرة الاولى في العالم العربي وربما العالم يتحول المشاركة في ندوة او مؤتمر "عملا ارهابيا"، فهل هناك دولة في العالم تحترم نفسها يمكن ان تحول مواطنيها إلى مجرد"ملفات امنية"، وهل يستقيم اي حكم بهذه الطريقة يحول البلد إلى "قلعة من الخوف".
هذه الدول تريد ان تحويل انظمة الحكم في الخليج العربي إلى "سياج امني يضرب ظهور الناس ويقطع مع الشعوب ويعاديها" وهو مالا تحتاجه قطر، لان العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة مودة وثقة، فالشعب يثق بنظامه والنظام يثق بشعبه، والكل يحتكم إلى منظومة من القوانين تعطي كل ذي حق حقه، فقطر تؤمن بالحرية التي يكفر بها الاخرون.
القضية الاساسية الثانية تتعلق بالربيع العربي، والكل يعلم ان قطر انحازت إلى الشعوب التي تطالب بالحرية، وايدت الثورات العربية، وهذا ما لم يرق لدول في الخليج العربي سخرت كل امكانياتها لاحباط الثورات وامال الشعوب العربية بالانعتاق من الظلم والدكتاتورية والفساد، وذهبت ابعد من ذلك بتمويل الانقلاب على اول رئيس مدني شرعي في تاريخ مصر الحديث، وهو ما لم تقبله قطر التي تؤمن ان الشعب المصري هو صاحب الحق في اختيار حكامه عبر صناديق الاقتراع وليس الانقلاب، مما اغضب السعودية والامارات اللتان استثمرتا مليارات الدولار في الانقلاب على الشرعية، وهو الانقلاب الذي فشل بتطويع الشعب للجنرالات، رغم قتل 6000 مصري واعتقال اكثر من 23000 انسان وجرح الالاف غيرهم، وعجز عن اعادة المصريين الذين يتظاهرون منذ 8 شهور متواصلة بلا كلل او ملل ضد الانقلاب، مما افقد الدول الراعية والممولة للانقلاب عقلها وجعلها تضرب "اسداسا في اخماس"، ودفعها لتصويب سهامها المسمومة نحو قطر، وتوهمت انها بذلك تجفف"ينابيع الدعم والمساندة الاعلامية" للشعب المصري الرافض للانقلاب، على اعتبار ان وقف الدعم القطري كفيل بتمكين الانقلابيين من السيطرة على الاوضاع في مصر، ونسي هؤلاء ان الشعب المصري مصر على اسقاط الانقلاب، رغم المعاناة والدماء والدموع والاعتقال، وان قرار الشعب المصري ليس بيد قطر او غيرها من الدول، بل بايدي ابناءه انفسهم.
هذه الحملة المسعورة على قطر ستبوء بالفشل، لانها تقف على الضفة الصحيحة من التاريخ، متصالحة مع نفسها ومع الامة، ولانها تتحالف مع المستقبل والامل والحرية، اما من يناصبوها العداء فسيخسرون وستتحطم اوهامهم المريضة، بدفع قطر إلى "بيت الطاعة"، على صخرة المواقف القطرية الاخلاقية الثابتة والمعلنة وهي "أن قطر ملتزمة بمبادئها تجاه استضافة كل من يستجير بها، وانها لن تغير موقفها مما يجري في الساحات العربية".
(الشارقة القطرية)