مصر فقدت عقلها بجد؛ يندر أن تسمع فيها اليوم صوتا لعاقل. ومن ما يزال من النخبة المصرية يحترم عقله ومكانة بلاده العظيمة، لا مكان له وسط الجوقة الإعلامية والسياسية هناك. يكفي للمرء أن يتابع برنامج باسم يوسف، ليلمس عن قرب جنون النخبة المصرية وإعلامها.
لكن مهما بدا المشهد الذي ترسمه تعليقات باسم يوسف الساخرة والعميقة على الحالة، وآخر تقليعاتها المجنونة جهاز معالجة الإيدز بأصبع "كفتة"، والهوس الإعلامي بشخص وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي، فإنها لا تُقارن بالقرار الأخير للقضاء المصري الذي يدعم بالمحصلة اعتبار حركة حماس الفلسطينية حركة إرهابية.
في عز صراع الأنظمة العربية مع حركات المقاومة الفلسطينية عبر التاريخ الطويل، لم تتجرأ دولة عربية على تصنيف أي منها حركة إرهابية، باستثناء عدد محدود من الجماعات المأجورة، مثل جماعة أبو نضال التي امتهنت الاغتيالات والتفجيرات في دول عربية، لحساب أجهزة مخابرات صهيونية وأجنبية.
منتصف العقد الماضي، شهد توترا غير مسبوق في علاقة حركة حماس مع دول عربية عديدة. كان ذلك في أجواء الهجمة الأميركية على المنطقة، وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان. دخلت "حماس" في أزمة علاقة مع الأردن ومصر التي كان يحكمها حسني مبارك المعادي بشدة للمقاومة، ومع دول خليجية أيضا. لكن ما من دولة فكرت بإطلاق صفة الإرهاب على حركة حماس.
على العكس تماما، ظلت خطوط الاتصال مفتوحة؛ كان خالد مشعل ضيفا دائما على القاهرة، ويُستقبل من عمر سليمان؛ رئيس المخابرات. وكانت الرسائل في الاتجاهين بين عمان وقيادات الحركة.
وما ينطبق على "حماس" ينطبق على حركة فتح ومثيلاتها من التنظيمات الفلسطينية التي يجوب قادتها عواصم المنطقة، رغم ما بينهم من خلافات جوهرية.
تخيلوا لو أن الأردن أعلن حركة فتح التي تسيطر باسم السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية، تنظيما إرهابيا. كيف له أن يدير العلاقات المتشابكة مع الجانب الفلسطيني غرب النهر في مثل هذه الحال؟
ألم يتذكر قادة مصر أن الحركة التي وسموها بالإرهاب تسيطر على قطاع غزة المتاخم لحدودهم، ولهم مع شعبها القابع تحت الحصار تاريخ طويل ومصالح متشابكة، وتحديات أمنية مشتركة؟!
المؤكد أن تلك الاعتبارات لم تغب عن بال القضاء المصري ومن يحركه، لكن القرار لم يكن سوى خطوة توجت بها النخبة المصرية المهيمنة، حملة لشيطنة الشعب الفلسطيني بأسره، لم نشهد مثلها في عهد مبارك، ولا حتى في وسائل الإعلام الصهيونية نفسها.
يراهن كثيرون في المنطقة على استعادة مصر لدورها القيادي في الساحتين العربية والإقليمية، بعد أن تتجاوز الظروف الانتقالية الصعبة التي تمر بها. لكن ما أخشاه أن نستفيق بعد حين على مصر وقد تشكلت بهذا الخطاب الجنوني المعادي لكل ما حولها؛ لا بل لنفسها وتاريخها، وتقاليد وقيم شعبها الذي قدم أعظم التضحيات من أجل الأمة.
كيف لدولة تلعب دورا قياديا في الإقليم، أن تؤدي واجبها بهذه السياسة الشوفينية ضد شعب عربي يخضع للاحتلال والحصار الإسرائيليين؟
مصر فقدت عقلها حقا. وقبل أن نطالب ونحلم باستعادة دورها القيادي، نأمل أن تعود إلى رشدها.
(الغد)