كنت أشعر بغربة شاملة في إحدى مؤسسات العمل التي قضيت فيها فترة من الزمن؛ كان الجميع ينظر إلي باعتباري دخيلا ومفروضا من غير استحقاق، مع أن أحدا لم يكن يستحق وجوده في المؤسسة سواي. تحوِّل الخلافات السياسية الناس إلى طوائف وطبقات، ليس لأنهم كذلك بالفعل، ولكن لأن نخبة فاشلة وفاسدة تريدهم كذلك.
وَضَعني المدير في قاعة وراء مكتب صغير وكمبيوتر "دبره" من بقايا مؤسسة أخرى. كان واضحا أن كل شيء مؤقت؛ المكتب ووجودي أيضا. القاعة المجاورة لمكتب المدير يبدو واضحا أنها ستُلحق بالمكتب؛ سيمتد إليها في وقت ما، وأنا سأترك العمل قريبا. كان المدير لا يملك من الوطنية والانتماء شيئا إلا كراهيتي والإساءة لي، لأني معارض سياسي!
كنت أدخل القاعة وأجلس إلى المكتب مهملا؛ لا أحد يرغب بي ولا بالحديث معي، ولا يريد مني حتى عملا أو مساعدة. وكان ذلك يسعدني، لأنه يمنحني فرصة لأعكف على كمبيوتري المحمول، أو أقرأ أو أكتب بلا توقف أو ملل؛ وأحاول، كما كانت حياتي دائماً، أن أكتب شيئا يمكن نشره في الصحف والمجلات والمواقع؛ أو لأجل الشفاء، ففي الكتابة شفاء. ولم أكن احتاج لأجل ذلك سوى الوقت.. والإهمال!
في القاعة المغلقة المشار إليها بالإهمال، كانت التسلية المتاحة لي أن أعرف ما يدور من خلال استماعي لوقع الأحذية في الممر. كان هذا الاستماع هو التواصل الوحيد مع المؤسسة والعاملين فيها. وكان هذا يخفف كثيرا من قسوة الجلوس وحيدا في قاعة مغلقة لمدة تسع ساعات يوميا (العمل ثماني ساعات، وهناك استراحة لمدة ساعة كانت في الحقيقة ساعة عمل إضافية بالنسبة لي).
صوت قرع حذاء نسائي على البلاط. الصوت منتظم بطيء ثقيل وواثق، مصحوب بأخبار الدائرة وسلة النميمة. قرع الحذاء مثل نشرة الأخبار؛ كل قرعة تقول خبرا: وصل أبو حمدان الساعة الثامنة والنصف، معه ساندويتش مرتديلا، لا بد أنه حصل على مكافأة الإضافي. وأخبار العشاق، وانتقادات الزملاء، ورأي مساعد المدير المتذمر والساخط أبدا.
يتوقف الصوت. لا بد أنها وصلت المكتب. ثم يعود الصوت مرة أخرى؛ قرع فوضوي مرتبك، مليء بالشعور بالدونية والكراهية لكل الآخرين، صوت حذاء شخص يعتقد أنه يقدم للمدير أكثر مما يحصل عليه.. شعور بالذنب.
يتحرك على الفور صوت حذاء راقص خفيف واثق، مشحون بالهمس والتسلل. وتمر فترة طويلة قبل أن يعلن صوت فتح الباب وإغلاقه عن انتهاء الاجتماع الأكثر أهمية في العمل اليومي. ثم يعود صوت الحذاء، ولكنه بطيء مرتبك فوضوي، يشي بالانفعال وعدم انتظام ضربات القلب، محمل بالرسائل المكتومة عن الإفطار والسجائر والأحلام والوشايات والاقتراحات.
صوت حذاء رجالي سريع مموه، يتظاهر بالعمل ويشي بالتملق. وصوت آخر بطيء متردد، ثم هو يخرج سريعا غاضبا؛ أكيد لا اجازة ولا إضافي. وصوت حذاء رجالي متردد؛ زميل زائر يريد تمضية الوقت، كان صديقا للمدير أيام "الجرب"!
صوت حذاء غامض، لا بد أن صاحبه مقوس الظهر مطأطِئ الرأس؛ أبو حمدان يوشك على التقاعد، خدماته قليلة الفائدة، ويحاول أن يتقرب من الجميع ويرضي الجميع، ولم يعد لديه ما يخبر به المدير! ويعلم المدير أنه يأتي بالأخبار والمقولات التي يريد الموظفون أن تصل له.
الغد