من أشد ما يلفت الانتباه في الخطاب القرآني ذلك التوجيه الرباني الواضح والقاطع في سورة «الحجرات» التي تعد دستوراً في الأخلاق للمجتمع الإسلامي ولكل المجتمعات البشرية، إذ أن الله -عز وجل- أراد أن يوجه نظر المؤمنين منذ السنوات الأولى نحو الآداب الجميلة والأخلاق الرفيعة التي تعد ثمرة للإيمان وثمرة للعلم والتعلم، وثمرة للتربية، التي تهدف إلى إيجاد المجتمع النظيف الطاهر النقي، على صعيد الأفكار وعلى صعيد المشاعر، وعلى صعيد العلاقات وأنماط التعامل بين مكونات المجتمع، وبين شرائحه وأفراده وشخوصه ومؤسساته.
يقول الله عز وجل مخاطباً المؤمنين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)).
هذه الآية الكريمة تلفت الانتباه إلى مسألة دقيقة ورقيقة تتمثل بنبرة الصوت،اثناء الخطاب مع النبي، إذ يجب أن يكون الصوت على قدر ما يحتاج السامع، فلا يكون بتلك الدرجة التي توحي بالرعونة وقلة الذوق، وتعبّر عن درجة من درجات الاستهانة والاحتقار والحط من قدر المخاطب.
لقد ربط القرآن الكريم الأدب بالإيمان والتقوى، حيث جعل القول الكريم واللفظ الجميل والأداء الرقيق عبارة عن اجتياز للاختبار والابتلاء والامتحان في الدنيا، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ))، بالإضافة إلى جعل ذلك طريقاً لنيل الثواب العظيم، وحيازة رضا رب العالمين ومن ثم نيل أعظم المراتب وأعلى الدرجات في الآخرة بالإضافة إلى الدنيا.
حسن القول وجميل الكلام المغلف بالأداء الحسن والصوت المناسب يؤدي إلى ايجاد المجتمع النظيف الراقي، ويعبر عن مدى التحضر الحقيقي والتمدن الفعلي، إذ أن التحضر والتمدن المطلوب ليس مقتصراً على رقي المظاهر والملابس والأبنية والأدوات المادية، بل إن جوهر التحضر والتمدن يتمثل بنظافة القلب والوجدان والعاطفة، ورقة المشاعر ودقة الإحساس؛ الذي يعبر عنه نمط التعامل مع الآخرين، ويعبر عنه الخطاب والقول، ويعبر عنه الخلق والأدب.
الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يؤشر على الأدب مع الوالدين، والعلماء، وأهل القدر وأصحاب المكانة، وكبار السن كذلك، بالإضافة إلى الأدب مع كل أفراد المجتمع صغاراً وكباراً، إذ يجب أن يكون قائماً على الاحترام المتبادل والتواضع الجم، والتقدير والصفح والتغافر والتسامح، الذي يعزز الأواصر الاجتماعية ويقوي الروابط الأخوية.
الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يؤشر على توقير مجالس العلم الذي يذكر فيها قول الرسول، وقول الله، وكل مجلس يحوي علماً وفائدة، ويحوي ادباً وخُلقاً، وكلاماً جميلاً.
الأدب يجعل الإنسان أهلاً للرسالة وأهلاً للأمانة ويجعله يرتفع لمستوى التشريف بتلقي التكليف الرباني والقيام بتنفيذ أمر رب العزة المتعلقة بالممهمة الجليلة الكبرى المتمثلة بإعمار الكون والاستخلاف في الأرض، والعناية بموجودات الكون، وحفظ أسباب الحياة ورعاية سنن الخلق.
الأدب وحسن الخلق دلالة على رجاحة العقل، وسلامة الفكر، كما أنه مؤشر على قوة العلم، ومؤشر على حصيلة المرء التربوية وما تحصل لديه من خبرة وتجربة وحكمة وحسن تقدير، ويعد مقياسا لتقدم المجتمعات ورقي الأمم.
(الدستور)