أكثرية وهمية هي تلك التي اكتظت بها ساحة الشهداء والطرقات المؤدية إليها في بيروت يوم الخميس الماضي. ولا قيمة سياسية لأكثر من مليون لبناني تحدوا المطر ومحاولات الترهيب ليحتشدوا في قلب بيروت لإحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري ولتأكيد اصطفافهم حول التحالف السياسي الذي أطلق انتفاضة الاستقلال وأنهى الوصاية السورية على لبنان! فحتى لو كان عدد طلاب الحرية في لبنان ضعف ذاك الذي قال كلمته بوضوح في 14 شباط (فبراير) الماضي لظل في العيون الإلغائية التي تُخّونه، وتلك التي تصر على استعباده، وهماً. ذاك أن لبنان يعيش صراعا فرضته قوى داخلية لا ترى حقا لسواها في تحديد مسار وطن لبناني تريده قوى خارجية اعتادت استباحته أن يظل أداة طيعة توظفها لخدمة أطماعها، قوى تصر على احتكار قرار لبنان وتصدر فتاوى الوطنية. من أطاع موجود يتدفق عليه المال وصكوك الوطنية. ومن عارض ألغي وهما خائنا!
لكن مسيرة التحرر, التي فجرها اغتيال الحريري وزادها تماسكا قتل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل وساسة ومثقفين عديدين بعدهم, أثبتت في غير محطة أنها حقيقة لا تلغيها الخطابية البعثية ولا تدفن وجودها الانشائيات الفارسية. صمدت قوى 14 آذار في وجه الاغتيال والترهيب. وظلت, كما بان في خميس المليون, تكبر بزخم شعبي لم يهتز.
قوى الموالاة في لبنان أكثرية وهمية في عيون من يريد تمزيق لبنان فقط. أما من يريد إنقاذ البلد فلا يملك إلا أن يعترف بثقلها ويحاورها شريكا في الوطن على كلمة سواء هي استقلالية البلد وحريته من سطوة الولاءات السياسية والعقائدية الخارجية وتقديم مصالحه على كل آخر، بعثيا كان أم فارسيا.
إذا كانت قوى المعارضة معنية بإنقاذ لبنان من الأزمة التي تقوضه فمسار الحل واضح: انتخاب مرشح التوافق العماد ميشيل سليمان رئيسا يعبئ الفراغ الرئاسي ويقود عملية تشكيل حكومة يتمثل فيها كل فريق حسب وزنه النيابي وتنسجم مع اتفاق الطائف، الذي حمى لبنان من الانقسام والتشرذم، وصولا إلى انتخابات نيابية جديدة في موعدها الدستوري. فذاك مسار طرحته الحكومة واعتمدته الجامعة العربية ويقبله المنطق. رفض ولوج هذه الطريق يشرعن أسئلة عديدة حول المآلات التي تريد المعارضة وإيران وسورية دفع البلد إليها.
لكن لا تجني في القول إن المعارضة قد تكون راغبة في إبقاء الأمورعلى حالها. فثمة إغواءات آنية تجعل من الراهن خيارا مقبولا لحزب الله وحلفائه. فالوضع الحالي أتاح لحزب الله إقامة دولة داخل الدولة اللبنانية وخارج سيادتها. يحتكر الحزب قرار الحرب والسلم. ويدير شؤون المناطق التي يسيطر عليها بمال يأتي من إيران بلا قيود وباستقلالية كاملة عن المؤسسات الدستورية اللبنانية.
لكن تلك حال لا تملك مقومات الديمومة. فاستمرار التوتر سيزيد من هواجس الآخرين وسيدفعهم للتحوط من سطوة حزب الله. وهذا يعني حتما بروز قوى أخرى لا تقبل لنفسها بأقل مما انتزع حزب الله لنفسه من حق الاستقلال عن الحكومة المركزية. وحينذاك سيؤول لبنان إلى ضياع لن تنفع عنده تأكيدات المعارضة اللفظية تمسكها بوحدته.
قيام دولة لبنانية مكتملة المؤسسات، كاملة الصلاحيات، مستقلة القرار، وملتزمة الدستور والقانون سيُفقد حزب الله تفرده بقراره، وسيُضعف قدرته على خدمة عقائدية عبر قطرية لا تعترف بنهائية الدولة اللبنانية وسيادتها على أرضها وسياساتها. سيفقده دولته الضيقة في الوطن المأزوم. لكنه سيكسبه، وكل اللبنانيين، دولة رحبة في وطن آمن مستقر. وذاك هو الخيار الذي تفرضه مصلحة لبنان وتتطلبه الوطنية الفعلية.