قبل عشرين عاما، كان في حارتنا ديك، يصيح بلا داع، ويستمر في صياحه بلا موعد، لدرجة بات معها مزعجا للسكان الذين اشتكوا لصاحب الديك، من صياح ديك حيهم غير المنتظم، مرارا وتكرارا.
ديك حينا كان يصيح ليلا عند الواحدة، ونهارا عند الظهيرة، وعصرا وعشاء، وفي كل الأوقات، لدرجة أن بتنا لا نتمتع بشروق الشمس الذي كان يترافق مع صياح الديكة الأخرى، ومع زقزقة العصافير التي تغنى بها الشعراء، فيما ديك حينا لم يكن يصيح صباحا في الوقت الذي اعتادت فيه الديكة الأخرى على الصياح.
المهم، اعتدنا على ديك حينا، وعلى عدم انضباطه، فبات أهل الحي لا يكترثون لصياحه، لأنهم يعرفون أنه يصيح كيفما اتفق، بداع وبلا داعِ، ويعرفون أن ديكنا "يخربط" في مواعيد صياحه، وبالتالي لا فائدة منه للاستيقاظ مبكرا، والتمتع بشروق الشمس. وبسبب عدم انضباط ديك حينا بات على سكان حارتنا الاعتماد على الديكة الأخرى في تلك المهمة، ولم تعد سيمفونية صياحه اليومي، غير المنتظم، تثير أحدا من السكان، فقد باتوا يعرفون ديك حيهم، ويعرفون أنه "يخربط" في مواعيد الصياح.
ورغم أن ديك حينا غير منضبط وأضاع دليله، وتلاعب بمواعيد صياحه بمزاجية عالية، ولم يقم بمهام الديوك، إلا أنه استثمر صياحه المتواصل في إيهام الديكة الأخرى، بأن صياحه المتواصل يؤهله لمكانة له في الحي، مستغلا في الوقت عينه صغر سن بعض الديكة، ممن خرجوا من البيضة وهم يرونه في الحي فاردا ريشه، يصيح في كل وقت بلا محددات، كل ذاك دفع ديوك الحي الأخرى لكي تهابه.
فرد ديك حينا ريشه أكثر، وبات يريد من الديوك الأخرى أن تصيح وقتما يصيح، وتتوقف وقتما يتوقف، ويشتكوا وقتما يشتكي، ويجاهروا بالكلام وقتما يجاهر، ويفعلوا ما يفعل، ويقولوا ما يقول!
مرت الأيام، وبقي ديك حارتنا على حاله، زعيما على أقرانه، إلى أن قفز يوما في الحي ديك آخر، منتظم الصياح، يعرف واجباته، يصيح في الصباح بصوت شجي، لا يهاجم أقرانه، ولا "يَكب بلاه" على المستضعفين من الديوك.
استطاع ديك حارتنا الجديد أن يجد له مؤازرين ومؤيدين، كانوا يرون أن بقاء الأمر كما هو لا يجوز، كما بقاء ديك حارتنا القديم متحكما بمقاليد الحي، فانضموا للديك الجديد، واستطاعوا تشكيل قوة في وجه الديك السابق.
تسيّد ديك حينا الجديد، وتقلد زمام الموقف، فانتظم الصياح في الصباح، فأصبحنا نستمتع بشروق الشمس، وزقزقة العصافير، وكان النائم منا يعرف أن موعد الاستيقاظ أزف، وأن مواعيد ديكنا حقيقية.
لم يخل الأمر، بين الفينة والأخرى، من مشاغبة من قبل ديك حينا القديم، و"حركشات"، باتت مكشوفة لكل الديكة الأخرى، فلم تعد مشاغبات وخربطات الديك القديم تجدِ نفعا، وبات سكان الحي يعرفون أن أي صياح يخرج في غير زمانه ومكانه مصدره ديك حينا القديم.
ترى لو أمعنا النظر داخليا، وعلى طول وطننا العربي الكبير، من المحيط إلى الخليج، وفي العالم أجمع، فكم ديكا سنجده يصيح في أوقات غير ملائمة، حيث تريد تلك الديكة غير المنضبطة منا أن نوقف ساعة الوقت والزمن على صياحها، وأن نلتزم بالتوقيت الذي تريد، والقول الذي تقول، والحدث الذي تفعل، تابعين لأفكارهم، نردد كالببغاوات ما يرددون، وننشد النشيد التي ينشدون.
الغد