سقوط النخب في أحضان الأنظمة ليس ظاهرة جديدة، بل هي صنو الدولة الحديثة التي تتميز بامتلاك أدوات القوة والبطش، وكذلك الاغراء في الآن نفسه.
صحيح أنها كانت موجودة في الفضاء العربي الإسلامي منذ القرون الهجرية الأولى، لكن الظاهرة كانت أقل وضوحا بهذا القدر أو ذاك، لأن سيطرة الدولة على المجال العام كانت أقل بكثير مما هي عليه في الدولة الحديثة، إذ كانت الأوقاف ظاهرة واسعة الانتشار، وكان المجتمع أكثر حيوية مما هو عليه الآن (المجتمع المدني بالتعبير الحديث).
على أن الظاهرة المشار إليها بدت أكثر وضوحا في العقدين الماضيين إثر سيطرة النخب الحاكمة على السلطة والثروة في آن، ما يعني أنها امتلكت “سيف المعز وذهبه”، بطريقة أكثر قوة من ذي قبل. فالسيف أكثر مضاءً في ظل دولة باطشة تنفق على الأمن أكثر مما تنفق على أي شيء آخر، كما أن المال أكثر وفرة بين يديها في ظل مد سلطاتها نحو مجال “البزنس” ومجالات الاقتصاد الحديثة الأكثر جلبا للمال.
هذه الظاهرة (السيطرة على السلطة والثروة في آن) كان لها بعد سلبي آخر، إذ جعلت الأنظمة الجديدة أكثر نزقا حيال النقد، مهما بدا محدودا، لاسيما إذا أشار بهذا القدر أو ذاك إلى فسادها، فضلا عن قمعها.
ولأنها في حاجة دائمة إلى تدجين المجتمع على الخضوع من دون الحاجة إلى الإكراه، فقد مالت في حالة النخب إلى خيار الإغراء أكثر من خيار البطش، لاسيما أن قدرتها على حرمان النخب من التواصل مع الناس بات أقرب إلى المستحيل دون خيار الاعتقال، خلافا للقديم؛ حين كان بوسع السلطة أن تخنق المثقف من خلال حرمانه من منبر يعبر من خلاله عن نفسه، أما العالِم، فكان يكفيها أن تمنعه من الخطابة أو التدريس، حتى تحول بينه وبين التأثير.
اليوم، يمكن للنخب (بكل أصنافها) أن تتواصل مع الناس داخل الحدود وخارجها بأشكال عديدة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، من دون المرور من تحت عباءة السلطة، او الاستئذان منها، وهو ما جعل خيار الإغراء أكثر تفضيلا من خيار القمع الذي يزيد في جماهيرية المثقف أو العالم الذي يبقى حاضرا من خلال مريديه في وسائل التواصل في حال اعتقاله.
هكذا صار الإغراء هو السيف الأقوى، والإغراء هنا يشمل المال ويشمل المناصب بطبيعة الحال، فضلا عن بث التناقضات بين النخب والتيارات السياسية من أجل كسب هذا الطرف في مواجهة ذاك (يحدث استقطاب النخب أيضا من خلال أنظمة أخرى لدول غير دولهم).
ربما كانت المفارقة أن ربيع العرب قد تزامن مع ذلك التحول في وسائل الاتصال، وربما لولا التحول المذكور، لما كان لربيع العرب أن يندلع، ومن هنا بدأت الأنظمة في لعبة الاستقطاب ، فيما استخدمت نخبا أخرى في دول نجحت فيها الثورات من أجل التخريب بدعاوى شتى.
هكذا رأينا ليبراليين لا يمتون إلى الليبرالية بصلة، ورأينا قوميين ينقلبون على مبادئهم وينسون الحرية والتعددية، بل يتحالفون مع إيران لحظة تناقضها مع غالبية الأمة، ورأينا يساريين يفعلون ذات الشيء، ويطبلون أو ينحازون لخيارات أنظمة كانوا يرونها رجعية، كما رأينا مشايخ من كل التيارات الفكرية (سلفية، وصوفية، وإخوانية ومستقلة) تستقطبهم السلطات وتستخدمهم في حروبها، وكل ذلك عبر المال والإغراء، وعبر فتح المنابر، وأحيانا عبر الإسقاط أو التلويح بفتح ملفات معينة.
من الصعب حشر هذه المسألة، مسألة السقوط في تيار معين، وإن بدت أكثر وضوحا في التيارات الليبرالية والقومية واليسارية، فلم ينج منها الإسلاميون، إذ رأينا منهم من يبرر القتل باسم الدين، ويبرر الخضوع والخنوع والفساد باسم الدين، ويمنح الحاكم من الصلاحيات ما يتجاوز أعتى الفراعنة.
إنها مأساة كانت تتحرك أمام أعيننا، فيما تراقبها الجماهير بعناية. وفيما تمكنت وسائل إعلام رسمية، وتابعة لقطاع من الفاسدين الذين أثروا من علاقتهم بالأنظمة، تمكنت من إفساد بعض العقول، إلا أن الوعي الجمعي ظل عصيا على التشويه التام، وبقي للنخب النظيفة دورها وحضورها، بخاصة الإسلامية منها في ظل الصحوة الإسلامية الواسعة في المجتمعات العربية.
لن تتوقف لعبة الفساد والإفساد في عالم النخب سوى بتكريس مبدأ الحرية والتعددية، ومن ثم إخراج المجتمع بالتدريج من دائرة التبعية للسلطة؛ أيا كانت، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وحينها يكون العلماء والمثقفون المخلصون أوصياء على السلطة، بدل أن يكونوا تابعين لها، ومبررين لأخطائها. ولن يحدث ذلك سوى بنضال مرير، لأن التحولات التاريخية في حياة الشعوب والأمم لا تمر بسهولة في أغلب الأحيان.
الدستور