الملف الأوكراني بين روسيا وأمريكا
د.حسام العتوم
04-03-2014 02:08 PM
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1992 أصبح بمقدور الولايات المتحدة الأمريكية أن تسمح لذاتها التدخل أكثر في أي حدث يربط الفدرالية الروسية بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق مثل جورجيا سابقاً عام 2006 و أوكرانيا حالياً عام 2014 رغم اعتقاد روسيا بأن الحرب الباردة بينها وبين الغرب الأمريكي انتهت إلى غير رجعه، وبأن تبعات الحربين العالميتين الأولى والثانية انتهت أيضاً، وبأن العالم الآن أصبح عالماً متعدد الأقطاب بعد ظهور قوى عالمية جديدة مثل إيران والصين والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، لكن واقع الحال لا يتحدث بهذا الاتجاه فأمريكا تعتبر أن روسيا تنافسها في كل مكان على خارطة العالم ومثلي هنا سوريا وإسرائيل وفلسطين ومصر وغيرهم، وتعتبر أيضاً أن من حقها بمفردها السيطرة على خيرات وسياسات العالم بينما هي روسيا تتحرك وفق قواعد القانون الدولي وشرعية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ولا تجهد نفسها في فرض الديمقراطية بقوة السلاح، كما فعلت أمريكا في العراق وليبيا وحاولت ذلك في سوريا، فهي أي روسيا لا تمارس الاحتلالات ولا الانقلابات وإنما توقع عقود العمل والمشاريع مع الدول التي تصادقها، وتبحث عن السلام والأمن من منطلق قيادة الشعوب لنفسها وعبر صناديق الاقتراع.
روسيا اليوم تختلف عن تلك التي غزت أفغانستان عام 1979 إبان الحقبة السوفييتية لأسباب ذات علاقة بالحرب الباردة المسعورة، والمطلوب الآن أن تتغير أمريكا أيضاً باتجاه التعاون الكامل مع روسيا في محاربة الإرهاب الدولي وفي ترتيب قواعد السلام العالمي ومن دون حساسية مفرطة لا توصل إلى نتيجة، وفي المقابل مثلما هي أمريكا دولة عظمى عملاقة على مستوى السلاح والتكنولوجيا و الاقتصاد هي كذلك روسيا مع تشابه في الأزمات والنجاحات واختلاف واضح في أهداف السياسات الخارجية، فميزانية أمريكا عام 2014 بلغت 1100 مليار دولار، بينما بلغت إيرادات ميزانية روسيا (427) مليار دولار، وبلغ الصرف المالي الروسي على أولمبياد سوتشي هذا العام أكثر من 50 مليار دولار، وفي الملف الأوكراني تمتلك روسيا مرتكزات قانونية وإنسانية لم تكن أمريكا تفهمها بسهولة لولا القنوات الاتصالية الدائمة بين روسيا وأمريكا على مستوى السياسة العالية، فالتشنج الأمريكي الروسي حول أوكرانيا بدأ ينحسر جليده بعد أن عرفت أمريكا بأن روسيا لا تنوي أن تتدخل عسكرياً في أوكرانيا رغم موافقة مجلس الأمة الروسي نواباً وأعيان على توصية التدخل إلا إذا ما صعّد النظام الأوكراني الانقلابي الجديد بقيادة التيار (البنديري) المحسوب على الغرب من إرهابه على بسطاء المواطنين الروس البالغة نسبتهم المئوية 60% في إقليم الكريم ذو الحكم الذاتي المستقبل، و 85% في شرق أوكرانيا و 5% في غربها، وهو ما أكده دميتري بيسكوف السكرتير الصحفي للرئيس بوتين، وفي المقابل مُستغرَبٌ هو التوجه الأوكراني الجديد إلى إلغاء اللغة الروسية ذات التأثير القوي هناك والتي هي لغة عالمية أيضاً ولغة الحاضر الروسي والأوكراني المشترك والماضي والمستقبل أيضاً إلى جانب اللغة الأوكرانية.
الحساسية الأمريكية الروسية في الموضوع الأوكراني واجهها الكرملين أيضاً بحكمة وصبر وجمد توصية مجلس الأمة الروسي (الدوما) بسحب السفير الروسي من واشنطن بعد تصريح للرئيس الأمريكي أوباما ووزير خارجيته كيري بأن روسيا ستدفع ثمناً باهظاً إذا ما تدخلت عسكرياً وهو ما أكده أيضاً السكرتير الصحفي للرئيس بوتين سابق الذكر، ولروسيا حجة قوية في إقليم الكريم بالذات الذي كان في التاريخ تابعاً لهم وأهداه لأوكرانيا الزعيم السوفييتي خروشوف للدفاع عن ناسها وعن أسطولها الحربي ذو الموقع الاستراتيجي في مياه البحر الأسود الدافئة، وهي أي روسيا لن تسمح تحت أي ظرف أن يحل محله أسطول للناتو مثلاً والعودة للحرب البادرة التي تصر من طرفها على أنها انتهت إلى غير رجعة، وعلى الأرض سيبقى الخلاف قائماً بين موسكو وكييف على طريقة ترتيب الحكم في أوكرانيا بعد إخراج زعيمة المعارضة يوليا تيماشينكا من السجن والصعود بتيار الشباب البنديري المتطرف المعادي لروسيا إلى سدة الحكم وبعد إدارة الوجه 24 درجة تجاه الغرب، فهل هذه هي ثمار هدم الاتحاد السوفييتي الذي عاش حياة أخوية واحدة خاصة مع أوكرانيا؟ فمن عاش حياة الاتحاد السوفييتي وحياة روسيا أو أوكرانيا اليوم سيلاحظ حالة الاندماج الكبيرة التي يعيشها الروس والأوكران، فكثيراً ما تجد روسياً من أم أو أب أوكراني والعكس هو الصحيح، فبلاد الاتحاد السوفييتي كانت عملاقة وواسعة ومحسودة وبلغت مِساحتها الجغرافية أكثر من 22 مليون كيلو متر مربع، وكان الأجدر بمن هدم الاتحاد السوفييتي من أجل إدخال الديمقراطية إليه أن أبقاه قائماً وجعله ديمقراطياً وإصلاحياً ومنفتحاً بنفس الوقت، والآن من حق أوكرانيا أن تعيش الاستقلال السياسي والاقتصادي لكن عليها أن توازن دورانها بحيث تحافظ على علاقة طيبة مع روسيا وأن لا تدير الظهر لها مرة واحدة، وبنفس الوقت لا يوجد ما يمنع أن تقيم علاقة ممكنة سياسية واقتصادية مع أي دولة عالمية ومنها الاتحاد الأوروبي، وهنا عليها أن تتذكر أن الغاز مثلاً لا يمكن أن تحصل عليه بأسعار تفضيلية 268 دولار للمتر الواحد إلا من روسيا، وكلما دفئت العلاقة السياسية مع موسكو هبط سعر استيراده عالمياً.
الروس جاهزين للحسم في أوكرانيا عسكرياً حالة التصعيد فقط ضد ناسهم السكان الروس من قبل الحراك والتيار الشبابي المتطرف والفاشي إن صح التعبير الصاعد للسلطة هناك من الشارع والميدان مباشرة، وأي تدخل استثنائي قادم من هذا النوع لو تم لن يكون احتلالاً ولن يخترق القانون الدولي بل سيشكل حالة دفاع عن كرامة الإنسان الروسي وعن أسطولهم الحربي الراسي في المياه السوداء بالقرب من شواطئ الكريم؛ يقول السفير الأمريكي في موسكو دجيك ميتلون بأن الاضطراب الحالي في أوكرانيا جاء ليس بسبب التدخل الروسي بل بسبب كيفية التشكيل العشوائي لأوكرانيا، وبسبب عدم وجود زعيم حقيقي يلتفون حوله، ولا مفر لأوكرانيا إلا أن تقيم علاقة صداقة على الأقل غير عدوانية مع روسيا حتى تزدهر، وإدخال أوكرانيا للناتو مطابق لسياسة إدارة أوباما ومخالف لإرادة الشعب الأمريكي، وفي المقابل فإن دعوة زعيم منظمة جناح اليمين المتطرف في أوكرانيا دميتري ياروش لقائد الانفصاليين الشيشان (السياسي وليس العسكري) دوكو عمروف لدعم المقاومة الأوكرانية ضد موسكو في غير مكانها وفي غير زمانها، وفيها إساءة لأوكرانيا ولمستقبل العلاقة بين الشعبين التوأمين الأوكراني والروسي، وللبلدين الجارين أيضاً أوكرانيا وروسيا وهو الأمر الذي أغضب زعيم الشيشان رمضان أحمد قديروف ورد عليه بسخرية، وتأكيد من نائب وزير الخارجية الروسي غريغوري كاراسين بأن روسيا لا تضع سيادة أوكرانيا موضع شك وبأن الاتصالات السياسية مع أوكرانيا الرسمية جارية، واتهم سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الغرب في دعم الحراك الجديد في أوكرانيا وسانده القول فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة، ورفض دميتري ميدفيدف رئيس الوزراء الروسي الاعتراف بالانقلاب الأوكراني من جهته وطالب بالعودة للاتفاق السابق وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، ومع خالص تمنياتي من جديد لأوكرانيا بالاستقرار وللعلاقات الروسية الأوكرانية بالعودة إلى مربع الصداقة والأخوة والبناء المشترك.