الخطة ب في سوريا، الخطة ت في أوكرانيا
جهاد الزين
01-03-2014 05:04 PM
من باريس تبدو أوكرانيا عرساً ديموقراطيا حتى عندما كانت في ذروة المأتم في كييف قبل سقوط الرئيس يانوكوفيتش فكيف بعده وهناك سلطة جديدة تتشكّل مؤقتا.
ليست فقط برامج "التوك شو" السياسي هي المزدهرة بالسياسيين بل أيضا بالمثقفين. فالمثقفون الفرنسيون، كالعادة، يبدون في مثل هذه اللحظات الأوروبية جدا ليس فقط حملة مشاعل الديموقراطية بل أيضا كما لو أنهم فرقة "الكوماندوس" التي تستكشف و"تتوسّع" في مساحات جديدة لـ "أوروبا" في مسار موحّد مع مصالح الدولة الفرنسية وسياساتها. في الموضوع الأوكراني تتقاطع قضيتان كبيرتان لا واحدة في العقل السياسي والثقافي في أوروبا الغربية: الأولى هي توسيع النفوذ الأوروبي والثانية هي دمقرطة المزيد من شرق أوروبا أو التوسّع ديموقراطيا.
لذلك كانت متابعة التطورات الأوكرانية في باريس تحمل نكهة حماسية فرنسية تبدو أحيانا أقل تعقيدا مما هو الوضع على الأرض الأوكرانية حتى بعد الانتصار السياسي - "العسكري" للمعارضة المدنية.
ومع أن العديد من السياسيين والمثقّفين الفرنسيين دعوا إلى ضرورة التوضيح السريع للأوكرانيين أن ما ينتظرهم ليس عضوية سريعة في الاتحاد الأوروبي بل أقل من ذلك بكثير، نلاحظ أنه على الطرف الآخر من "الغرب" الذي يخوض المعركة ضد روسيا في أوكرانيا، أي الولايات المتحدة الأميركية بدأت تعلو أصوات تطالب أوروبا بمكافأة أوكرانيا بضم سريع لها إلى الاتحاد الأوروبي.
إذا كان يجوز إيجاز الصراعات بالمصطلحات، فهناك مصطلحان رئيسيّان متداولان للصراع الحالي المتجدّد بين الاتحاد الأوروبي مدعوماً بواشنطن وبين روسيا. المصطلح الجيوبوليتيكي الروسي عن "الخارج القريب" والمصطلح الأوروبي عن "سياسة الجيرة" وهو (أي المصطلح) المولود ضمن "مشروع الشراكة الشرقية" كما سمّاه الاتحاد الأوروبي عام 2009 والذي يشمل روسيا وكل دول أوروبا الشرقية غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ودول القوقاز الثلاث أرمينيا وجورجيا وأذربيجان. المصطلحان في قلب الصراع على أوكرانيا.
ربما ينطبق التعبير الروسي "الخارج القريب" على سوريا أكثر من أوكرانيا كما اكتشفنا في السنوات الثلاث الأخيرة من حجم الالتزام الاستراتيجي الروسي بالوضع السوري. لهذا أوكرانيا هي حتما أكثر من "خارج قريب". إنها "داخل مجاور".
لا شك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحضِّر الخطة ت في مواجهته الأوكرانية. فهو بدأ الخطة أ بمحاولة كسر المعارضة وخيارها الأوروبي وعندما لم يتمكن الرئيس ياناكوفيتش من القيام بذلك انتقل إلى الخطة ب التي استندت إلى مشروع تسوية جرى التوقيع عليها لكن تبيّن أنها شكّلت محطة لهجوم "نهائي" على السلطة في كييف أدّى إلى انهيار هذه السلطة القريبة من موسكو.
لن تكون الخطة ت الروسية ذات مستوى واحد على الأرجح بل ستكون مزيجا من الاستخدام الروسي لأوراق متعدِّدة اقتصادية وديبلوماسية وسياسية وربما عسكرية لاحقا بينها ورقة المناطق حتى لا نسمِّها الورقة الانفصالية وهو ما بدأ يظهر في شبه جزيرة القرم التي تقوم فيها أصلا قاعدة عسكرية أساسية للأسطول الروسي بالاتفاق مع الحكومات الأوكرانية المتعاقبة.
المثير أن التعليقات الكثيرة في العالم الغربي على التطورات الأوكرانية بدأت فوراً بالحديث عن تأثير الضربة الأوكرانية على السياسة الروسية في سوريا (راجع مقال جهاد الزين قبل شهر تحت عنوان:"الحرب الروسية مع الغرب على الجبهتين السورية والأوكرانية"- 30 كانون الثاني - يناير 2014). فقد كانت الديبلوماسية الروسيّة انتقلت قبل التحولات الأوكرانية بأيام قليلة ومع نهاية مؤتمر جنيف2 إلى وضع استراتيجية ما بعد هذا المؤتمر لأنه على الأرجح سيستغرق تحضير جنيف 3 وقتا طويلا قبل انعقاده حسب مصادر المعارضة السورية في باريس. وسيكون منطقيّاً تَوَقّعُ أن تنعكس المواجهة في أوكرانيا في مزيد من تأخير فرص جنيف 3 في ظل الخلافات الأميركية الروسية.
عناصر التفتّت عديدة في أوكرانيا كما هو معروف. فالانقسام الإتني متداخل بل متماهٍ مع الانقسام المذهبي بين أرثوذكس وبين "أونيات - Uniates" (ما نسمّيه في المشرق "الروم الكاثوليك") وبين غرب كاثوليكي وشرق وجنوب أرثوذكسي... يتوزّع كل ذلك على ست كنائس ثلاث أرثوذكسية أثنتان أوكرانيتان وواحدة روسية (كنيسة موسكو) واثنتان كاثوليكيتان وواحدة بروتستانتية. ومن المفيد التذكير أن الكنيسة الروسية نظرت طويلاً بحذر بل برفض إلى ما اعتبرتْه التوسُّع الكاثوليكي في البلاد السلافية وأوكرانيا مسرح تاريخي لهذا الصراع.
تبقى الإشارة إلى مفارقة هامة هي أنه إذا كان الفاتيكان قد ظهر حليفا عمليا للسياسة الروسية (والكنيسة الروسية) في سوريا لأن الموضوع بنظرهما يتعلّق بمصير كل مسيحيّي سوريا فإن الفاتيكان لأسباب التنافس التاريخي بين الكاثوليكية والأرثوذكسية في شرق ووسط أوروبا هو في موقع الخصومة مع موسكو (وكنيستها) في الصراع على أوكرانيا.
(النهار اللبنانية)