الرحيل صعب . الفراق مُر . الفقدان صعب و مرّ وموجع!! . ففي الرحيل احتمال عودة، وفي الفراق امل بأن تنجلي الغيمة؛ لكن في الفقد لا أمل و لا عودة . إنه الموت، نهاية النهاية في الدنيا، الانتقال الى الآخرة، وهو حكمة الله في خلقه وهو الذي اليه ترجعون .
لا مقياس لألم الفقدان الا مدى قرب الفقيد منك، اعني من قلبك . تحس بغيابه كما لو ان قطعة منك ذهبت او شريانا انقطع، فكل الامكنة بالامكان اعادة ترتيبها الا ذاك المكان في القلب .
تشعربموت شقيقتك او شقيقك أن جزءاً من بنائك انهار . فهو/هي إمّا انك جئت الى الدنيا فوجدته امامك لحظة بلحظة، لقمة بلقمة، قريبا منك في النهار و الليل وربما في الفراش وحضن الأم الذي يتسع لكل ابنائها و بناتها فرادى، الصغير حتى يكبر، أما الكبير بالنسبة لأمه فإنه لا يكبر أبدا .
شقيقتي زينب تصغرني بثمان سنوات . اذكر ولادتها واول صرخة لها و...آخر شهقة! كنا اشقاء ثلاثة اكبر منها، انا اوسطهم . وكانت بالنسبة لنا لُعبة حية نساعد امنا في رعايتها . الشقيقة الكبرى تحملها وانا اعد وجبتها و شقيقي الاصغر علي، يمارس دور الأم في اطعامها .ندربها على المشي وحين تقع نُعاقب بدعوة تقصف العمر او بكماد على الظهر او صفعةٍ على الوجه . كان حبي لها استثنائياً منذ الصغر . ربما كنت اتقمص دور الاب الذي كان يخرج الى دكانه بعد صلاة الفجر ولا يعود الا مع صلاة المغرب، ربما لانها كانت هادئة غير مشاغبة لا تصرخ ولا تشاكس، كطبيعتي غير المشاكسة، وربما لاسباب اجهلها .
اوائل التسعينيات اعتدت ان أطلً على والدي ووالدتي واخواتي الذين اسكنتهم بجواري اثناء خروجي الى العمل اشرب الشاي بالميرمية انال رضاهما و أسري في مناكبها . ذات يوم صعقت حين وجدت ابي يبكي . لاول مرة ارى هذا الرجل الصلب الخشن يبكي . سألته بشعور من اصابه زلزال : مالك يابا، شو في، شو صار ؟ هدًأ من خوفي مسح دموعه وقال لاشيء لا شيء اجلس.
جلست على ركبتيّ .تنحنج وقال : لا ادري ما سيحصل لهاتين البنتين حين أموت . وأخذتْ دموعه تنهمر مرة أخرى. طمأنته : بعد عمر طويل لا تقلق يابا خواتي في عيوني . منذ ذاك اليوم المبتل بدموع ابي ازداد احساسي بالمسؤولية تجاه زينب و هدى .أصبحتا شقيقتي و ابنتي في نفس الوقت .تضاعف حبي لهما وحرصي على راحتهما .
لم يخطر بذهني لحظة ان احداهما ستغادر هذه الدنيا قبلي، لذلك غرست في اولادي حبهما .
الحب مسؤولية ايضا،ليس مجرد كلمات و عواطف آنية. سعيت ان اؤمٍن حياتهما بعد ان ارحل ليطمئن قلبي كما اطمأن قلب ابي .وفي كل ذلك كانت تساعدني و تشجعني زوجتي . ولم يقصٍر اخي علي، البعيد في الكويت مكان رزقه، بمسؤوليته ايضا تجاه شقيقتينا، فرضا الوالدين يفتح في الحياة السبل، وفي الآخرة احد ابواب الجنة .
شهرين فقط مرضت زينب . كانت تذبل يوما بعد يوم وكنت حين اراها ابكي بحرقة أب وفجيعة أخ . كان المرض الخبيث ينتشر سريعاً .أسرع مما تحتمل و احتمل .لكنها مشيئة الخالق .
حتى الآن اصدق ولا اصدق انها ماتت . الموت كلمة موجعة .لكن البقاء لله وحده .
اكاد كلما رأيت هدى في بيتنا أسأل : وين زينب ؟؟ لقد اعتدنا منذ توفيت أمّي انْ نراهما معاً و نحبهما معاً .
أبي ...ها قد أوصلت لك الأمانة حتى آخر حفنة تراب على قبرها .
(الدستور)