عندما سلمت إلى إدارة السجن كل ما كان في حوزتي من أمتعتي ومتعلقاتي الشخصية، والنقود والساعة ورباط الحذاء، والملابس أيضا، واستلمت بدلة السجن الكالحة الخالية من كل الملامح، متماثلة مع الكائنات التي تعيش هناك؛ السجناء والسجانون والميكروبات أيضا، وجدت في جيب بدلة السجن منديلا قماشيا. كان شيئا ناعما جميلا مختلفا عن كل شيء في المحيط، حيث يبدو كل شيء قاسيا خاويا.
بدا هذا المنديل مختلفا عن السياق في نعومته وجماله ومعناه المؤثر. كان أجمل ما أمتلكه؛ قطعة فنية جميلة ورائعة، مشحونة أيضا بالذكريات، والعلامة الخاصة الخفية في بيئة قاسية خاوية، والإشارة الجميلة التي كان يرسلها الحنان الممكن الحصول عليه في ذلك المناخ القاسي في درجة حرارته، وقسوة العمل والعلاقات المحيطة، عندما تربطه على رأسك مثلا، أو تبلله بالماء، أو حتى مجرد شعورك أنه في جيبك.
شعرت بامتنان عميق للمنديل وفكرة وجوده. تساءلت عن سر هذه الفكرة الجميلة في سياق كله قسوة وإذلال وكسر للإرادة، واعتداء على الحرية والذات والخصوصية. هل كانت الرسالة أنك قادر على الانعتاق؛ أنك حر وأنت في زنزانتك الانفرادية؟ أنك أنت مثل هذا المنديل الرائع الذي يتحدى القبح والملل؟!
عندما أفرج عني وسلمت ما لدي واستلمت أماناتي التي في إدارة السجن، أعطاني السجان المنديل. خطر لي أنه هدية وذكرى جميلة عن تجربة سيئة. قلت مختبرا الفكرة: ليس لي، وجدته في بدلة السجن!
حدث ارتباك، واستغرب العقيد الذي كان يراقب. قال مؤنبا الجنود: خطأ من هذا؟ وأعاد عليّ السؤال ليتأكد أنه ليس لي، وأني وجدته بالفعل في بدلة السجن. وأكدت له ذلك. تبادل العقيد والجنود النظرات!
ما أزال ممتنا لذلك السجين الذي ترك المنديل متعمدا ربما، لعله يكون لسجين آخر بعده لا يعرفه. لقد وصلت هديتك يا صديقي، وكانت هدية جميلة لا تنسى!
أيها الصديق الذي لم يعرفني ولم أعرفه، ولم يتح لي أن أشكره مواجهة، هذه رسالة شكر أزجيها إليك، مضافاً إليه الذكريات وعدم النسيان. خمسة وعشرون عاما مضت، ومنديلك الذي أهديتني إياه، أو أبقيته لي أو نسيته، يصاحبني مثل رفقة جميلة مؤنسة في طريق موحشة.
لماذا بقيت في هذه الطريق وحيدا، كما لو أنني في زنزانتي الانفرادية؟
ما الحياة سوى طريق تسلكها وحدك، كما لو أنك محكوم عليك بالفردية والانفراد؟
كل ما يمكن أن تحظى به في الحياة.. منديل أزرق جميل.
(الغد)