هو سؤال يبحث عن إجابة متأنية تستشرف المستقبل و ترتكز على تاريخ اجتماعي وسياسي واقتصادي، وعلى ما يجري في الوقت الحاضر من أحداث متسارعة انتهت بأن أصبحت دموية وهو الأخطر، وتطورت إلى فرار رئيس الدولة يونوكوفيج إلى مدينة خاركوف داخل اوكرانيا حيث معقل مؤازريه وهرب رئيس وزراءه نيكولا ازاروف إلى موسكو، وإخراج رئيسة الوزراء السجينة يوليا تيماشينكا لتلعب دور قائد المعارضة الحقيقي وليس الملاكم فيتالي كليتشكو او ارسيني ياتسنيوك، والعودة للدستور القديم الذي يكلف رئيس الوزراء بتولي كامل الولاية العامة للسلطة في كييف على غرار النظام البريطاني، والربط بين الربيعين السوري والأوكراني وربطهما بشخص الرئيس الروسي الفولاذي فلاديمير بوتين، والتدخل الأمريكي والغربي في الشأن الأوكراني تحت عنوان الحرية والديمقراطية وتحسين الاقتصاد واختيار الطريق المناسب صوب المستقبل، والربط بين الاقتراب الروسي من مصر ومعاقبتها أمريكياً في أوكرانيا من جهة أخرى، ووضع العيون دولياً على الأسطولين العسكريين الروسيين في المياه الأوكرانية والسورية وعلى صواريخ اسكندر في ليننغراد.
أوكرانيا في التاريخ كانت تسمى بـ روس كييف في القرن التاسع وشكلت عاصمة للسلاف الشرقيين، وبين عامي 1923 و 1991 انضمت تطوعاً للاتحاد السوفيتي وعاشت معه حياة واحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وواجهت مع السوفييت عامي 1932 و 1933 مجاعة واحدة عرفت باسم (Golodomor)، وتوحدت أوكرانيا أول مرة عام 1939، وفي الحرب العالمية الثانية بالذات شاركت أوكرانيا بقوة في دحر النازية الألمانية، وكانت قبل ذلك في الحرب العالمية الأولى اشتركت مع الإمبراطورية الروسية في مواجهة النمسا، وفي 16 يوليو 1990 أعلن البرلمان كامل سيادة دولة أوكرانيا وتم إقراره رسمياً 1 كانون الأول 1991 بقانون، وتخلت أوكرانيا عن جميع أسلحتها النووية لصالح روسيا بعد توقيعها على معاهدة ستارت عام 1994 وتنفيذها عام 1996، ولأوكرانيا دور هام في عملية حفظ السلام العالمي ولها قوات في هذا المجال منتشرة في كوسوفو، وكان لها موطئ قدم في سيراليون، وفي العراق، ولها شراكة عسكرية مع روسيا ومع حلف شمال الأطلسي.
سياسة (شد الحبل) أصبحت تتصاعد بين موسكو وكييف الآن وأوكرانيا منقسمة على نفسها بين شرقها الروسي الذي يعج بالمصانع المنتجة وبين جناحها الغبي الخالي من أدوات الإنتاج ومعظم رجال أعماله يعملون في أوروبا، وبينما الشرق الأوكراني يفضل البقاء مع الفدرالية الروسية والمحافظة على اللغة الروسية كلغة تحتل المرتبة الثانية بعد الأوكرانية، وبينما هي موسكو تصف الرئيس العازل لنفسه فيكتور يونوكوفيج بالخائن وترفض إجراء انتخابات أوكرانية رئاسية مبكرة تاريخ 25/5/2014 لكونها تخالف الدستور، وبينما هي وكالات الأنباء تتحدث عن احتمال تدخل عسكري روسي في كييف على غرار الحدث الجورجي عام 2006، فإن الغرب الأوكراني يواصل تحطيم تماثيل لينين و كل ماله علاقة بروسيا ويدعو لإلغاء التعامل مع اللغة الروسية داخل البلاد وهو الذي حدث سابقاً عام 2013 بعد سنوات من اندلاع الثورة البرتقالية عام 2004 التي هزت اواسط أوكرانيا، وبعدما سال الدم في الميدان هناك ووصل القتل إلى حوالي المائة وربما أكثر إلى أين هي أوكرانيا ذاهبة الآن؟
الغاز الروسي وسلة الاقتصاد هي مقتل سياسة أوكرانيا الداخلية والخارجية اليوم فلا زالت نسبة الفقر تراوح الـ 37% من السكان البالغ عددهم حوالي 50 مليون نسمة حسب دراسة حديثة للبنك الدولي، وفوز فيكتور يونوكوفيج الموالي لموسكو عام 2010 برئاسة أوكرانيا وإن سكّن المشكلة الاقتصادية عن طريق الحصول على الغاز بأسعار تفضيلية تصل إلى 268 دولار للمتر إلا أنه لم يجد حلا جذرياً لها وأوروبا لن تكون الخيار الأفضل بكل الأحوال، وتخوف روسيا من تعاون عسكري أوكراني مستقبلي مع حلف الناتو في منظومة الدرع الصاروخي الذي يدّعي الحلف أنه غير موجه للجغرافيا الروسية، وروسيا اليوم قلقة على مستقبل أوكرانيا وتدعو الغرب من خلال تصريحات لوزير خارجيتها سيرجي لافروف للتشجيع على موضع الأزمة في إطارها القانوني وطمأنة غربية لموسكو بأن تبقى علاقة أوكرانيا معها متينة، لكن واقع الحال يتحدث عن المفاجأة لروسيا التي أحدثتها انسحاب يونوكوفيج من العمل السياسي وترك الساحة للمعارضة التي خرجت من السجن بقوة ضغط الميدان والبرلمان، فروسيا في حرج والرئيس يونوكوفيج في حرج مقابل فهو غير مرضي عنه في الشارع الأوكراني المعارض وفي موسكو أيضاً وهو الذي كان بإمكانه أن يعلن الحظر العسكري لمنع التظاهر وضبط الأمن في بلاده وصده من التدهور ومن سيلان الدم وسطه لكنها الديمقراطية في المقابل التي اختلطت أصواتها بالفاشية التي لم تنتهي في أوكرانيا رغم إسدال الستارة عنها مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 التي طردت أدولف هتلر وفلول الفاشية من البلاد السوفيتية الواسعة إلى عمق برلين ورفع العلم السوفيتي على سطح برلمانهم الرايخ.
مبدئياً بدأت تظهر أسماء راغبة بالترشيح للرئاسة الأوكرانية مثل المعارض البارز الملاكم كليتشكو المحسوب على المعارضة رقم 1 والأبرز يوليا تيماشينكو، ومحافظ مدينة خاركوف ميخائيل دوبكيني المحسوب على تيار الرئيس المهزوم فيكتور يونوكوفيج وموسكو تؤكد معارضتها لإجراء انتخابات قريبة في 25/ أيار المقبل، وبكل الأحوال لا مخرج أمام أوكرانيا الآن وأمام قيادتها القادمة الجديدة سوى مسك العصا السياسية من الوسط بين روسيا والغرب، فالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مرتبط بروسيا زعيمة الاتحاد السوفييتي السابق، والغرب الجاهز اقتصادياً راغب بتحويل أوكرانيا سوقاً حرة لصناعاته وسيبقى يرفض إدخالها في عضويته أو استيعاب فقرها وبطالتها إن لم تعتمد على نفسها وتنتج وتصنع الغرب بحجمها الاقتصادي، وفي المقابل نقرأ عن اعتداءات وحرائق طالت المصانع العاملة ومنها مصنع خاركوف للمجوهرات الثمينة، واختطاف ابن رئيس بلدية كييف لممارسة الضغوط عليه وتجهيزات مسبقة لسنوات عديدة ماضية للشباب للخروج للميدان، وروسيا توقف مساعدتها لأوكرانيا في الوقت الحاضر (15 مليار دولار)، والصين تطالب بدينها، وإغلاق للبنوك الروسية، وإقبال شعبي على الدولار بدلا من العملة الوطنية (الهريفنيا)، فكيف ستتصرف أوكرانيا إلى الأمام؟
85% نسبة السكان الروسي في شرق وجنوب أوكرانيا مقابل 95% نسبة السكان الأوكران في غرب أوكرانيا مما يعني بأن قرار النظام الأوكراني الجديد المتوقع أن ينتخب بالزحف صوب الغرب والاتحاد الأوروبي والابتعاد مرة واحدة عن الفضاء الروسي لن يكون سهلاً وسوف يواجه معارضة شديدة هي أشبه بالأمواج الهائجة والتسونامي وسط محيط راكد، والانقسام الديني المسيحي بين الأغلبية الأرثودوكسية الروسية والكاثوليكية الأوكرانية خطر جديد يلوح في الأفق، وتبقى قضية أقليم الكريم حيث يرسو الأسطول العسكري الروسي والذي قال بصدده رئيس بلدية سيفاستوبل الجديد بأن البديل سوف يكون الناتو حالة التحرش به، وحيث الأغلبية السكانية الروسية 58% هناك وهي الأكثر تعقيداً، والفدرالية الروسية لن تسمح بالتنازل عن حضورها السياسي والعسكرتاري في تلك المنطقة، ولن تقبل بتواجد لقوات حلف شمال الأطلسي الناتو في وضع مقابل أو بالقرب من أسطولها ذو الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، وفي المقابل فإن علاقة أوكرانيا مع العرب هي اقتصادية بالدرجة الأولى ولا تنسجم مع ربيعنا الثائر، فحجم التبادل التجاري مع الأردن مثلاً وصل إلى 251 مليون دولار، ومع العراق 273 مليون دولار، ومع الإمارات العربية المتحدة وصل إلى مليار دولار، وهكذا دواليك، وأخيرا وليس آخراً أتمنى لأوكرانيا دولة وشعباً الاستقرار والاعتدال والتوازن في السياستين الداخلية والخارجية والله من وراء القصد.