الوحدة المصرية السورية 1958 الذكرى والدروس
د. فيصل الغويين
27-02-2014 02:07 AM
في الاول من شباط 1958 خطا النظام العربي خطوة تاريخية باتجاه تحقيق غاياته القومية، وذلك بإعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية بكل ما لهما من ثقل في هذا النظام. وفي الثاني والعشرين من الشهر نفسه اصبح الحلم حقيقة واقعة بموافقة الاغلبية الساحقة من الشعبين المصري والسوري على تلك الخطوة. وعلى اختيار جمال عبد الناصر رئيسا لدولة الوحدة.
تأتي ذكرى الوحدة المصرية – السورية السادسة والخمسين والوطن العربي يعيش مخاض تغيير جذري على محاور الديمقراطية، والتنمية الشاملة، والعدالة الاجتماعية، واجتثاث الفساد. لم تكن الوحدة عفوية وغير مدروسة؛ اذ جاءت تتويجا للتفاعلات التي تواصلت بين سورية ومصر منذ التقى صنّاع قرارهما على رفض حلف بغداد في ربيع 1955. وفي عام 1957 سارع عبد الناصر بإرسال قوات عسكرية مصرية الى سورية كي تشارك في ردع عدوان تركي محتمل عليها، في سابقة هي الاولى من نوعها منذ بدأت الدول العربية مسيرتها نحو التحرر من الاستعمار الاوروبي.
وما ان رفعت في دمشق الدعوة الى اتحاد سورية ومصر لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي كانت تواجهها سورية، حتى جوبهت الدعوة بمعارضة القوى المعادية للوحدة : السورية والاقليمية والدولية. غير أن تلك المحاولات شكّلت حافزا لتعظيم حراك الشارع السوري الضاغط لانجاز الوحدة، مما يعني أن الارادة السياسية لصنّاع القرار في القطرين المدعومة شعبيا، هي التي اقامت الوحدة.
فقد اوفد "مجلس العقداء" صاحب الكلمة في الجيش السوري ليلة 11 كانون الثاني 1958 عددا من أعضائه برئاسة عفيف البزري رئيس الاركان الى القاهرة يحمل مذكرة تطالب بدولة ذات رئيس واحد، ودستور واحد، وعلم واحد، وجيش واحد، وعاصمة واحدة. ودارت بينهم وبين عبد الناصر وبعض اركان نظامه مفاوضات على مدى يومين، انتهت باعداد بيان باقامة جمهورية رئاسية للرئيس فيها صلاحيات غير محدودة، وقعه عبد الناصر، ووزير الخارجية السورية صلاح البيطار. وبعد أن تدارسه مجلس الوزراء السوري في جلسة حضرها رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس مجلس النواب اكرم الحوراني، ورئيس اركان الجيش وقادة وحداته، أقر الجميع البيان بدون ادنى تحفظ.
وكان الرئيس عبد الناصر قد اوفد اللواء حافظ اسماعيل الى دمشق في كانون الاول 1957، حيث اجتمع بالمجلس العسكري، واوضح لاعضائه انه جرى في مصر استبعاد "الضباط الاحرار" من الجيش واحالتهم الى وظائف مدنية، وان عبد الناصر لا يقر النشاط السياسي في الجيش، حرصا على وحدته والتزامه بواجبه المهني. ونبههم الى انهم في حال الوحدة قد يحالون الى وظائف مدنية، وانه سوف يجري تعديل للواقع الاقتصادي والاجتماعي السوري بما يحقق العدالة الاجتماعية، فاكد الجميع استعدادهم لتقبل ذلك.
شهد الاقليم السوري خلال سنوات الوحدة منجزات كبيرة في قطاعات الخدمات البلدية والقروية، وتطور في القوانين الاقتصادية والعمالية والرعاية الاجتماعية. كما لم تخل الممارسة من تجاوزات خاصة في مجال الحريات. غير ان الموازنة الموضوعية ترجح الانجازات. ولا ادل على ذلك من تواصل المظاهرات في سورية طوال العامين التاليين للانفصال مطالبة باعادة الوحدة، وتثبيت قرارات الاصلاح الاقتصادي، وتأميم البنوك وبعض الشركات، والتأمينات الاجتماعية.
ان الوحدة التي قامت على اساس الخيار الديمقراطي، فصلت بانقلاب عسكري مدفوع الاجر من الخارج. وكان الانقلاب الوحيد في سورية الذي تتصدى فيه الجماهير للانقلابيين، مطالبة بالابقاء على الوحدة، وهاتفة بحياة عبد الناصر. ومع ذلك فقد اعلن عبد الناصر قبوله الوضع الراهن الجديد في سورية على اساس انه ليس المهم ان تبقى سورية جزءا من الجمهورية العربية المتحدة، لكن المهم ان تبقى سورية، في اشارة الى الصراع الداخلي الحاد الذي كان يمكن ان ينجم عن استمرار محاولات الدفاع عن بقاء الوحدة.
ان قيام الوحدة بين مصر وسورية في 22 شباط 1958، والمواقف الشعبية العربية العامة والسورية منها خاصة، تجاه الردة الانفصالية، يؤشر الى ان الطموح للتكامل العربي طموح واقعي وممكن تحقيقه، اذا توافرت لدى القوى الاجتماعية المؤثرة في صناعة القرار القطري واستقلالية الارادة، والادراك الواعي بضرورة التكامل لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
لقد اثبتت تجارب الدول القطرية ان لا امن قوميا يتحقق، ولا تنمية اقتصادية تقوم، ولا ديمقراطية حقيقية تسود، ولا عدالة اجتماعية تترسخ، من دون كيان عربي اكبر حاضن للكيانات الوطنية القائمة، ومحترم لكل خصوصياتها.
ان الوحدة العربية وبعد كل التجارب التي مرت بها – لاسيما تجربة الوحدة المصرية السورية- لم تعد دعوة الى صيغة اندماجية يهيمن فيها القطر الاكبر على القطر الاصغر، بل باتت مشروعا لاتحاد يبدا كونفدراليا ويتحول فدراليا، بما يحترم واقع كل مكونات الاتحاد دولا او جماعات، فيحقق المصالح الكبرى للامة من دون ان يهمل احترام خصوصيات كل قطر او مكون من مكونات الامة.
ان احدا لا يستطيع ان ينكر حجم الصراعات الاهلية الدموية المعلنة والكامنة في جسم الامة، ولكن احدا لا يمكنه ان يجر تيار الوحدة في الامة الى مواقع تعزز هذه الانقسامات والصراعات. ومهما حاولت جهات اجنبية، من خلال ادواتها، الانقضاض على الحراك الشعبي العربي واختراقه وتحويل مساره، والضغط على بعض قواه، واغراقه بالفوضى والفتنة والعصبيات المدمرة، فانهم لن يخمدوا المعاني الكبرى التي انطوى عليها هذا الحراك. اننا امة واحدة لم يستطع حتى اكثر المتنكرين لعروبتها الا ان يتحدث اليوم عن "ربيع عربي" في اسقاط ضمني لكل ما يحمله من افكار وسياسات رافضة للاعتراف باي حقيقة عربية.
فما احوجنا الى استعادة المثل التي قامت عليها الوحدة المصرية- السورية في مرحلة مجيدة من مراحل نضالنا القومي، والاستفادة من الدروس التي خلفتها لنا هذه الوحدة. وما اعظم مسؤوليات المثقف العربي الملتزم تجاه غرس القيم الوحدوية العربية في عقول الجيل الحالي من شبابنا، فالمستقبل لا يمكن ان يبنى الا بسواعد ابناء هذا الجيل، واستنادا الى سلامة رؤيته.