من المفيد لكل كاتب مقال يومي أن يحصل على فترة راحة من الكتابة للاكتفاء بمتابعة ما ينشر يوميا في الصحافة ووسائل الإعلام والقيام بإجراء تقييم صريح لما كتبه الكاتب خلال سنة أو اقل: فهذه الفترة من الراحة هي الوحيدة التي تساهم في رؤية الصورة كاملة بدلا من متابعة تفاصيلها الصغيرة.
يجد الكاتب اليومي نفسه مجهدا ومنهكا في متابعة الأحداث حوله ، والتعليق عليها بطريقة محترفة تتضمن المعلومة والتشخيص الصحيح وتقديم بعض البدائل في حال توفرها. هذه الدائرة المتسارعة تجعل الكاتب في أحيان كثيرة مرهونا بالحدث وضرورة الكتابة عنه حتى في حال لم يملك المعلومة الدقيقة أو الرؤية الشمولية المتحررة من المصالح وطغيان الايديولوجيا والقناعات الذاتية.
أؤمن بأن المساحة المتاحة لكاتب المقال اليومي هي مساحة من حق القارئ وليس الكاتب. إنها مساحة يجب أن تساعد القارئ في الحصول على معلومة جديدة أو تحليل منطقي يساهم في توضيح قضية ما ، خاصة أن كاتب المقال هو في النهاية شخص صاحب موقف وهذا الموقف يجب أن يكون مبنيا على المعلومة والتحليل الصحيح. مساحة المقال اليومي ليست أداة ترويج شخصي للكاتب ولا وسيلة تقرب من السلطة ولا وسيلة للبحث عن الشعبية العامة من خلال اتخاذ مواقف تتناسب مع القناعات المسبقة للقراء ، إنها مكان يحصل فيه القارئ على وجهة نظر من المفترض أن تكون مدروسة بدقة وبعيدة عن البروباجاندا احتراما لذكائه.
في اسبوع نموذجي يجد الكاتب نفسه مضطرا للكتابة عن الأحداث الساخنة مثل استيلاء حركة حماس على قافلة مساعدات أردنية ، والكتابة عن غلاء الأسعار على الأقل مرة اسبوعيا ، ومناقشة تعديلات قانون الضمان الاجتماعي ، والخوض في المسألة اللبنانية الشائكة وغيرها من الشؤون. هذه المقالات تتضمن السياسة والاقتصاد والتنمية والعلاقات الدولية ومتابعة الشؤون العربية والعالمية وأيضا يحتاج الكاتب إلى أن يبدي رأيا في الصحة والتعليم والطاقة والثقافة والحياة الحزبية وحقوق الإنسان والإعلام والشباب والمرأة والإرهاب.. الخ.
لا أحد يستطيع أن يفعل كل هذا بدقة ومصداقية. لقد تجاوزنا بكثير زمن المثقف الشمولي مثل الفارابي وابن سينا وابن الهيثم وليوناردو دافنشي ، والعصر الحالي هو عصر التخصص والدقة ، والتدفق الهائل لمصادر المعلومات وزيادة الوعي والذكاء لدى القارئ يجعل من الصعوبة بمكان على كاتب مقال إدعاء الإحاطة والعلم بالتفاصيل الخاصة بكل القضايا للخروج باستنتاجات قطعية الدلالة تتضمن جملا مثل "لا بد" و"من المؤكد" و"لا بديل عن" وغيرها من الجمل الحاسمة ، ناهيك عن نشر أوصاف الخيانة والعمالة على المختلفين في الرأي مع الكاتب.
عندما يتصدى الكاتب لعدة قضايا من المتوقع أن يقع في الخطأ. في العام الماضي وقعت في عدة أخطاء أو سوء تقدير كشف عنه تطور الأحداث. وعلى سبيل المثال كتبت مقالا قبل الانتخابات النيابية أدعو فيه إلى المشاركة وانتخاب "أفضل المتاح عند صناديق الاقتراع" ولكن ما ظهر بعد ذلك هو أن الخيار الأفضل كان مقاطعة انتخابات لم تكن تتضمن الشروط الكافية للنزاهة والمصداقية خاصة بسبب نقل الأصوات وشرائها ولو عاد بي الوقت لكتبت داعيا إلى المقاطعة.
في نفس هذا السياق هناك أمثلة لكتابات أبدت استنتاجات قطعية الدلالة في قضايا سياسية إستراتيجية ثبت خطؤها ، بدون أن يكلف الكاتب نفسه عناء توضيح الخطأ والاعتذار عنه ، بل على العكس من ذلك يستمر في طرح الاستنتاجات الحاسمة.
ما أستطيع قوله هو أنني سأحاول اقتصار مقالاتي على المواضيع التي أؤمن بأنني استطيع تقديم رأي علمي ويحتمل مستوى عاليا من الدقة من خلالها بتجرد كامل عن الرأي الشخصي ، وإذا غابت هذه الزاوية عن الظهور في بعض الأيام: فإن السبب يكون أنني لم استطع كتابة مقال يتضمن الحد المطلوب من الدقة والمعلومة والرأي الذي يحترم ذكاء القارئ.
batir@nets.jo
عن الدستور .