هل من المعقول أن تستوعب عقلية سوية، ما حدث ليلة السبت الفائتة من ردود أفعال موغلة في غرابتها، مفاجئة في شموليتها، في أعقاب تعطل تطبيق "الواتس آب" لمدة ساعات، في أجهزة الهواتف الذكية؟
هل من الذكاء أساسا، أن يكتشف الناس الذين يبدو أنهم تنازلوا عن حصصهم في الذكاء، لصالح تلك الأجهزة، بأنهم تحت حكم تواصلي اجتماعي واحد، رغم وجود أشكال وأنماط أخرى مختلفة، قاموا هم طوعيا بتكليفه بإدارة حواراتهم، في العالم كله؟
أتحدث عن ست أو سبع ساعات، اختفى فيها تطبيق هاتفي حديث، يتيح للمشتركين فيه "مجانا"، التحدث والتواصل في العالم عبر رسائل نصية، صور فوتوغرافية وفيديوهات، إلى جانب مقاطع صوتية مسجلة، لمن لا يستطيع الكتابة!
أتحدث عن غرفة دردشة كبيرة جدا، واسعة جدا، رحبة جدا، تتسع لملايين الملايين من الرسائل والتعليقات والصور المباشرة، جعلت من ممتلكي هذه الهواتف، أسرى حقيقيين لرنات صغيرة ناعمة، تمهد لحوار ربما يمتد لساعات متواصلة، في أحاديث ليس بالضرورة أنها مهمة!
أتحدث عن أرقام خيالية تم الإعلان عنها من قبل شركة "فيسبوك"، التي قامت مؤخرا بشراء التطبيق المذكور، بسبعة عشر مليار دولار، في خطوة استغربتها مؤسسات التواصل الاجتماعي، قبل أن يدهش بسببها المستفيدون من الخدمة، والخائفون على نافذتهم التي هي بحجم الكرة الأرضية، من الإغلاق المفاجئ. والأرقام الخيالية ليست في ثمن شراء التطبيق حقيقة، لأننا في العالم الثالث، المستفيدون الأكبر من وسائل النعمة تلك، اعتدنا على سماع هذه الأرقام الفلكية، في عمليات بيع وشراء، وسائل تسليتنا ورفاهيتنا وراحتنا، بمبالغ يكفي واحد منها، في إنقاذ بلادنا من الجوع! الأرقام التي قصدتها هي المائة مليون من ضمن ستمائة مليون مشترك في خدمة "الواتس آب"، والذين تحولوا خلال الساعة الأولى من توقف التطبيق، إلى غرف الدردشة المتوفرة على صفحات "فيسبوك"! تخيلوا مائة مليون شخص من أصل ستمائة مليون، يتراكضون في العالم كله لاستكمال الحديث، عبر أي بوابة متاحة ومتوفرة، المهم أنها مفتوحة في تلك الساعة من الليل بالنسبة لنا نحن في هذا الجزء من الكرة الأرضية، وتلك الساعة من النهار في أجزاء أخرى، أعتقد أن سكانها كانوا خلالها في مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم.
المخيف، إذا سمح لنا أن نخاف، في تجربة اختفاء "الواتس آب" ليس فقط هذا الكم العجيب المريب، من "مريدي" التطبيق و"التابعين" لمجموعات المحادثة، والمأسورين لصوت الرنة الناعم؛ إنما المخيف هو الاحتكار الذي سمحنا له أن يحكم ويتحكم في أصواتنا وكلماتنا، حقائقنا وأكاذيبنا، مشاعرنا وأفكارنا، صورنا وصورتنا.
فعلى الرغم أنها كانت فرصة عظيمة، للراحة ولا أقول للتخلص، من كميات الأحاديث المهولة المتواصلة منها أو المتقطعة، أو مثلا للعودة المؤقتة إلى عالم اللحم والدم الذي فقد طعمه منذ سنوات الهبة التكنولوجية الهائلة، لكننا لم نرض باستراحة المحارب الإجبارية تلك، وأعملنا في "استثمار" ساعات الضياع، في البحث عن أسباب الضياع، وتحليلها والتحدث حولها والسخرية منها، أين؟ في مواقع تواصل اجتماعية أخرى!
المهم، أبارك لنا ولغيرنا العودة الميمونة للـ"واتس آب"، وأشد على يد من قرر أنه ليس دمية في أيادي كبار الملاك لتلك التطبيقات، باحثا عن نوافذ ومنافذ مختلفة، اكتسبت نوعا من الأهمية، في ظل غياب التطبيق الأم. وأقولها بكل أسى، أنا لم أبالغ في قراءة ردود الفعل، وكنت أتمنى أن أبالغ، ولو على سبيل الكوميديا الخيالية، لكن حقيقة مؤلمة وسقوطا مدويا موجعا، منعاني من ذلك!
(الغد)