غرايبة: عرفت "بالانسياح" أكثر مماعرفت "بالنبش"
جهاد المحيسن
23-02-2014 02:05 AM
حسرة في القلب عندما تكتب عن علامة تتلمذتَ على يديه، وتكون الفاجعة أكبر أن أحلامه لا تعرف الحدود، كنا طلابا في مرحلة الدكتوراة ندرس على يديه تاريخ العرب الحديث، وعلاقة السلطنة العثمانية بالغرب.
ننصت خاشعين أمام وقار وهيبة هذه القامة العملاقة، التي تنثر أوراقها ووثائقها على الطاولة المليئة بالتاريخ التي يعود بعضها لأواسط الاربعينيات، ويستشهد في كل مقولة ينطقها بورقة منها، يسرد التاريخ كحكاية نسجها شيخ المؤرخين.
يتحدث عن البدايات لتكوين الدولة الأردنية، نسمع تفاصيل تذهلنا؛ تلاميذ ومريدين وعلماء ومؤرخين، لا يسمح ضيق المساحة أن نبوح بجزئية منها.
قصته مع التاريخ قصة، ففي مدرسة السلط التي درس فيها يتحدث بكل محبة وفرح عندما سمعوا بأن المرحوم فرحان الشبيلات والد المهندس ليث سيأتي مُدرساً فيها ولم يأتِ! وعن مغادرته المبكرة لدراسة الطب في الجامعة الأميركية ببيروت، فقلبه المرهف لم يحتمل دروس التشريح وتعلم الطب، فهجرها الى دراسة التاريخ ، وبقي قلبه يذبح فيه كل يوم.
عندما غادر في الأربعينيات إلى لندن كما يحدثني هو، بدأ كتابة أطروحته عن الثورة السورية، وعندما اكتشف حقائق عنها تقلب وجه التاريخ الذي يرسمه مؤرخو الايدولوجيا، ومؤرخو السلاطين، لملم وثائقه وأوراقه وبقي يمتدح موقف صالح العلي والعلويين، من الثورة السورية ووضعها في صندوق كتب عليه لا يفتح إلا بعد وفاتي!
كانت وجهة نظر الشيخ المعلم عبدالكريم الغرايبة في التاريخ أنه مادة لإثارة الأحقاد والضغائن، وأن من يسعى لإثارة التاريخ من هذه الزاوية يسعى للتفريق والخراب، ووُظّف هذا الخطاب بشكل منهجي ومنظم، بحيث أصبح التاريخ العربي مادة لإثارة الفتن والأحقاد!
مشروعه التاريخي الذي كتبت عنه منذ عامين، لم يكتمل وقلت فيه على لسان صاحبه غرايبة "الذي اعتاد معلمه الراحل قسطنطين زريق تلقيبه "بالنابشة"، وجد بعد مضي سنوات من البحث والحفر والنبش، وتراكم المعلومات لديه، وازدياد خبرته أن يبدّل مصطلح "النبش" الذي حمله لسنوات طويلة، الى مصطلح "الانسياح"، حيث يقول "أنا عرفت "بالانسياح" ما لم أعرفه "بالنبش" والحفر والتعمق، وقارنت ذلك بالإنارة التي تسمح للعين بالرؤية فترى الأشياء بالعين على صورة مختلفة عن رؤيتها تحت المجهر. ترى العين الأشياء كما هي وفي محيطها الطبيعي لا مجزأة منفصلة عن محيطها"!
في اليوم التالي لنشر المقالة، زرته وحدثني أن الدكتور رؤوف أبو جابر، زميل الدراسة قد هاتفه يسأله إذا كان بحاجة لدعم مادي لإكمال مشروعه، ورفض ذلك، وكنت قد توجهت بنداء عاجل الى كل من يهمه الأمر لإتمام المشروع الذي أراد العلامة عبدالكريم غرايبة أن يرى النور في حياته.
فهل يسمع الأصدقاء والجامعة الأردنية التي لم توفه حقه هذا النداء وتكمل مشروعه!
(الغد)