عبد الكريم الغرايبة.... يودع عالمنا قبل ان يشهد الفصل الاخير من التاريخ الذي اعياه جمع رواياته المتناقضة...
في خريف 1973 وبعد ان تجاوزنا الثانوية العامه دون تدخل الدرك ....ودون ان نعرف من هو وزير التربيه والتعليم....التحقنا بالجامعة الاردنيه انا والعشرات من ابناء مدارس الارياف....كل ذلك قبل ظهور المكارم المتنوعه ...والاستثناءات اللامتناهيه
كان الحرم الجامعي للاردنيه فضاء جميلا...غابات من شجر الصنوبر الساحر، والسرو ...واشجار البرقوق الاصفر....كانت المباني محدودة العدد ...اهمها مبنى الاداب أ ومبنى ب...واخر لكلية التجاره....والشريعه.....كان هناك في الجانب الشمالي للجامعه مبنيان الاول للرئاسه....وهو المبنى الذي اصبح مقر الدراسات الاستراتيجيه....والثاني مبنى الامانة العامه.....حيث كان الاستاذ حسن النابلسي شخصية وازنه ....له من الهيبة والوقار الكثير مما للاستاذ الرئيس عبد السلام المجالى.
في تلك الايام كان في الجامعه شخصيات ثلاث نذكرها بالكثير من المهابة والاحترام...فكنا وبالرغم من اننا لا نعرفهم شخصيا نذكر ببالغ الاحترام ونتصيد مرور اي منهم في ممرات المباني وشوارع الجامعه التي كان لها قدسية لا يشعر بها ويفهمها الا من عاشها في تلك الايام الجميله.
كان عبد الكريم الغرايبه الرجل الذي يشع بياضا ونضاره لم نعهدها نحن القادمون من الارياف بعد مواسم الحصاد والرعي فيما تبقى من الصيف بعد ان انهينا عامنا الدراسي الاخير وودعنا مدارسنا بانتظار نتائج الثانوية العامه. وبشغف القرويين اجاب الزملاء الذين سبقونا على وابل الاسئلة عن سيرة الاساتذة الذين كانوا بالنسبة لنا الرسل الذين قال عنهم الشاعر.
لقد ابلغنا ابراهيم طالب السنه الثالثه في قسم اللغة الانجليزيه بأن هذا الرجل العالم هو عميد كلية الاداب...وانه مؤرخ يعتد به...وهو اول الاردنين الذين حصلوا على الدكتوراه قبل ولادتنا بسنوات....وان الاستاذ الغرابيه رجل لا يتساهل ويبحث عن مواهب في طلبته قد لا يعرفوها...وغالبا ما يعطي في الامتحان سؤالا واحدا وقد لا يكون لما تعلمته علاقة مباشرة في الاجابه.
كان بعض طلبة السنوات المتقدمه يتجرأون على سؤاله والحديث اليه في حين اننا نكتفي في مشاهدة سلوك الاساتذة مع الطلبه لننحى الى تقليدهم في السنوات اللاحقه. في المحاضرات العامه التي يستدعى لها الساسة ورجال الفكر يجلس الاستاذ الدكتور في الصفوف الاماميه وكنت ومعي بعض الاصدقاء ننتظر بفارغ الصبر انتهاء المحاضره لنستمتع في سماع ما سيقوله الغرايبه والذي كان دائما اكثر بلاغة وطرافة مما يقوله اي من ضيوفنا الاجلاء. ذات مره كان احد زملائه يلقي محاضرة اشتمل عنوانها على جملة "التاريخ المعاصر" فما كان من الغرايبه الا ان علق بعد ان انهى المحاضر الذي كان مأخوذا بنشوة الانجاز "لا ادري كيف يكون التاريخ معاصرا" مما دفعنا جميعا للتفكير بصحة ما قاله العالم الغرايبه.
في الجامعه سرت شائعة ان الدكتور الغرايبه والذي كان يشغل وظائف نائب الرئيس ...وعميد كلية الاداب....ورئيسا للجامعه بالوكاله....قد نسب من موقع العميد تنسيبا بفصل عضو هيئة تدريس....ليعدل التنسيب من موقعه كنائب للرئيس...وليتخذ قرارا مغايرا عندما استقبل تنسيباته الاول والثاني....وقد فسر استاذنا انه في التنسيب الاول نظرالحالة بعين العميد وفي الثاني بعين النائب وفي القرار تصرف كمتخذ قرار..ومنذ ذلك اليوم...علمنا الغرايبه درسا في الموضوعية ...والادارة...والحكمه..وها نحن نقول حتى يومنا هذا "الغرايبه يكتب للغرايبه"
قبل تسع سنوات فطن الساسة في بلدنا الى الشيخ العالم الساخر الزاهد...وورد اسمه كعضو في مجلس الاعيان....وقد اتيحت لي الفرصه ان ارقب سلوك الرجل الذي كان غريبا مثل اسمه.....لم اشعر وانا القريب من مجلس الامه كوزير للشؤون البرلمانيه
ان الرجل كان منسجما مع الدور ...فله شخصية لا تجيد الكثير من الفنون التي اعتاد عليها عشرات المتقاعدين...فالرجل لا يفتح فمه اذا لم يكن لديه ما يقول....ولا يقول الا اذا كانت هناك حاجة للقول.....ولا يحتاج الرجل ان يرسل برسائل عن من هو...وما يمكن ان يقوم به...فهو يملك ادوات المعرفه...ولديه قدرة نقديه لا يحتملها من يقضون ساعات امام مرايا الحلاقه وخزائن ربطات العنق.
في تلك الحقبه وعندما كان النقاش محتدما في المسار الثاني للاصلاح الذي كان يخطط له البعض الى جانب الحكومه حضرت الى جانب شيخنا جلسة زج فيها المنسق عشرات الاصطلاحات المفهومة وغير المفهومه...وبعبثيه الطالب الذي اعتاد على التمارين الذهنيه لاساتذته المميزين انتظرت ما سيقوله حول المشهد السريالي فقال
"الاصلاح السياسي ان نحترم الانسان وكرامته...واستطرد قائلا حفيدي ابن السنوات الاربع يقول لي..انا بحبك يا جدو....وعندما سأل الجد الحفيد لماذا ياحبيبي...اجاب الصغير....لانك تحترمني يا جدو"
انا احبك ايها الاستاذ الجليل.....فلقد اعددت نفسك لتكون استاذا قبل ان نفكر في تأسيس الجامعات ...وكنت علامة فارقه في فضائنا الاخلاقي..والاكاديمي..والانساني
بقي ان اقول ان الشخصيات الاخرى التي كنا ننتظر طلتها هما محمود السمره...ورشيد الدقر....فتحية لارواح الاساتذة الذين رحلوا والصحة لمن لا زالوا بيننا.