الآراءُ الشرعيةٌ ، واللغويةُ والعلميةُ ليستْ مقصورةً على المجامع الفقهية
د.عودة الله منيع القيسي
22-02-2014 02:11 AM
تمهيد :
- قبل بضع سنوات .. كنتٌ أكتب مقالة لغويّة- تجديديهَ – في جريدة الدستور .. وقد عزّ ذلك على أحد المتخصصين باللغة العربية . فكتب مقالة في جريدة الدستور- يرى فيها ، من دون أن يورد – ولو دليلاً واحداً على رأيه ، أن – التحقيق في اللغة والتجديد – فيها – يجب أن يقتصر على المجامع اللغوية ...
- فكتبت أوضّح بأن المجامع اللغوية ( ومثلها كل أنواع المجامع ، الفقهية، والتاريخية ، والطبية ...إلخ) – هي مجامع (محافظة) – غالباً – تجهد في أن تحافظ على الموجود.. هذا .. من ناحية ، ومن ناحية أخرى..فإن التفكير بقصر الاجتهاد ، في كل مجال، على – المجامع- هو تفكير بائس، لأنه يحرم الأفراد المبْدعين- الذين لا يُسمح لهم- غالباً- بأن يدخلوا المجامع إلا بعد أن تشيب رؤوسهم – يحرمهم من التجديد والإبداع ، أيْ : يحجر على حريتهم في التعبير عن أفكارهم وآرائهم . والحريةُ هي من أعظم المنح التي أعطاها الله تعالى – لبني الإنسان . أمَا قال عُمر ابن الخطاب – رضي الله عنه- ( متى استعبدتُمُ الناسَ ، وقد وَلَدتْهم أمهاتُهم .. أحراراً ؟)
بيان من دائرة الإفتاء:
- وقد أصدرت دائرة الإفتاء، في الأردن ، بياناً تُفتي فيه باعتراضها على الفتاوى الدينية التي كثرت من أُناس غير متخصصين ، أو لا يملكون أدوات الاجتهاد ...
- وأقول، أمام هذا : في الحقيقة أن التذرُّع بعدم التخصص ، أو بادّعاء عدم إمتلاك مثل هؤلاء الناس المجددين أدوات الاجتهاد – تذرّع .. باطل، وحُجّة داحضة ، لماذا ؟- لأن الأهم والأصحّ هو النظر في – أدلةِ – المجدّد الذي تصدّى لإبداء الرأي أو الآراء ، ( وليس الفتوى) في الشرع، أو في أيّ مجال آخر. فإذا كانت قويّة لا تنقض ، أو لا يسهل نقضها ، فرأيُهُ ، الإبداعيّ صحيح ، ولو كان ليس لديه مؤهّل إلا الثانوية العامّةً . وإذا كان يسهل نقضها.. فلا وزنَ لها ، ولا ثباتَ : ولو كان أستاذاً دكتوراً : ( فأمّا الزَبدُ فيذهب جفاءَاً . وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكُثُ في الأرض )- (الرعد- 17) .
- ومن ناحية ثالثة : فإن الحاضر ( فضلاً عن التاريخ ) يشهد بأن رجالاً أصبحوا علماء في الدين، وقادرين على النقد والإفتاء ، وهم لا يحملون الدكتوراه في الشريعة . ومن هؤلاء المرحوم – الشيخ حسن البنا – رئيس الإخوان المسلمين ، في مصر، في عصره – والأستاذ الشهيد سيد قطب ، أحدُ رؤساء الإخوان – والمرحوم الشيخ علي الطنطاوي ، والمرحوم الشيخ – ناصر الدين الألباني – العَلَمُ الفرد في الحديث الشريف . وغيرهم كثير ...
ومن ناحية رابعة : فإن الذين يجتهد ون ويجددون في الشريعة ، وفي غيرها من حقول العلم – لا يدّعون أنهم يُفتون ، وإنما هم يقدمون آراءَاً تجديدية ، ليس أكثر فلا يجوز ولا يصح ولا يعقل منعهم ، وإلا أصبنا حرية التفكير ، وحريّة الرأي – المنضبط بمنهج العلم – بمقتل أكيد . أمّا دائرة الإفتاء ، أو المجامع في الموضوعات المختلفة – فواجبها أن تدرس الآراء التي تُطْرَحُ – حَسَبَ أدلتها ، ومنهجها : أَعَلْمِيّ منهجها أم غير علمّي ؟ فإذا كانت الأدلة لا تنقض واتبع الباحث المنهج العلمي في البحث – كان عليها أن تجيز ذلك ، وأن تعلن إجازتها للناس . وإذا كانت الأدلة داحضة ، والمنهج ليس علمياً .. لا تجيزها ، وتعلن ذلك للناس ، أيضاً .
- ومن ناحية خامسة / أخيرة =إنّ تقديم الفتاوى والآراء العلمية " مُعَلّبةً " عن طريق المؤسسات المتخصصة – كالأطعمة المعلبة .. فلا تُشجّع الناس على التفكر والتدبُّر – والشّكّ والنقد . بل تتحجر عقولهم ، وكأنهم الأطفال الذين يعتمدون في تغذيتهم على أمهاتهم .
- إن تقديمها هكذا .. يصيب الناس بجمود العقل ، وضعف التفكير . فتموت – عندهم – حياة التفكر والشكّ والنقد . وإن أهّم ما في الإنسان – استعمال النفس والعقل – بحيوّية ، وحريّة .- أما قال الشاعر الجاهلي – زُهيُر ابن أبي سُلْمى :
( لسانُ الفتى .. نصفٌ ، ونصفٌ فُؤادُهُ ----فلم تبقَ إلا صورةُ اللحم والدّمِ ) ؟
- ثم .. أما يعلم الكثير أن حاكم المسلمين – أبا جعفَر المنصور – قد عرض على الإمام مالك ابن أنس – رضي الله عنه – أن يُعّممَ أبو جعفرعلى الأمصار الإسلامية أن يعتمدوا كتاب مالك وهو ( الموطّأ ) في الإفتاء – فلم يقبل الإمام العظيم ، لأنه يريد أن يستعمل العلماء ، في الأمصار الإسلامية عقولهم .. فيفُتوا ، حَسَبَ زمانهم وظروفهم ، ولاَ يأْطُرُ الناس على كتاب واحد – وفي أيّامنا نقول ، بنفس السياق : ولا يُؤْطرُ الناس كلهم على ما يصدر عن دائرة إفتاء ، أو عن مجمع ، في أيَّ مجالٍ أو تخصصٍ .
- أمّا اطلاع عموم الناس على الآراء والأفكار – الإبداعية – الفردية- فإنه يحفزهم على التفكُّر والتدبر – والشكّ ، والنقد، والمقارنة – وهذا .. يُنمّي عقولهم ، ويجعلهم قادرين على – حَلَّ – ما يصادفهم من مشكلات وعلى حُسْن التصرف في المواقف الحرجة والمفاجئة .
- وهذا .. ما تفقده طريقة التعليم في العالم الثالث ، لأنها طريقة ( تلقينية ) من الروضة ، حتى الدكتوراة . ولهذا ( ولأسباب أخرى كثيرة ) فالمجتمعات في العالم الأول تبني وتبدع وتتقدم ، أما نحن .. فنستهلك – للأسف الشديد – فحسْبُ .
- أخيراً .. يا أحبتنا في دائرة الإفتاء .. لا تضيّقوا واسعاً . ولكم ، بَعْدُ ، أن تراجعوا ما يُكتب ، فتجيزوا – أو لا تقبلوا – ومع ذلك .. فيظلّ – لعموم الناس – رأيهم . وبالله التوفيق .