مجتمع السياسيين والنخبة في الأردن فريد من نوعه، وقد لا تجد له مثيلاً حتى في دول عربية أقل تحضرا منا. تنهمك وسائل الإعلام وأقلام المحللين في قراءة الصراعات الجارية بين الحكومة والنواب على سبيل المثال؛ دلالاتها وتلاوينها السياسية والقوى الكامنة خلفها. وتحتل تلك القضايا صدارة الصحف والمواقع الإخبارية.
يخيّل لنا جميعا أننا وسط جدل سياسي حقيقي، ينتمي لتقاليد الحياة السياسية في الديمقراطيات المعروفة. لكن، وعلى نحو مفاجئ، تحدث انعطافة تبدد هذا الوهم. المسألة أبسط من ذلك بكثير؛ عشاء صغير في منزل "وجيه" سياسة أو مقاول؛ لا فرق، تطوي صفحة الخلاف. وفي حالات أخرى، قد يحتاج الأمر جاهة أكبر لإبرام المصالحة.
كل هذا الصراخ الذي أوجع رؤوسنا أياما وليالي تحت القبة وخارجها، لم يكن له معنى؛ تباً للديمقراطية إن كانت ستُفسد الود بيننا. على عشاء نطوي صفحة الخلاف. لا حاجة لنا أصلا بالسياسة وقواعد اللعبة الديمقراطية لإدارة خلافاتنا. ما دام المنسف موجودا، سنتفوق على أعتى الديمقراطيات في العالم!
الأدهى أن بيننا من يتغنى بهذه الميزة، ويعدّها بحق "حالة" أردنية خاصة، لا ينبغي التفريط بها؛ بل هي في نظره مفتاح الاستقرار في الأردن، نحتكم إليها كلما اشتد الخلاف بين نخبة المجتمع وصفوته السياسية.
لا أغلبية ولا أقلية، ولا حكومات برلمانية تمثل الأغلبية؛ مجرد شعارات. كيف يمكن الوصول إلى نموذج كهذا إذا كانت الجاهات أقوى من الأغلبيات السياسية والبرامجية؟ المنسف هو البرنامج الوحيد القادر على جمع الأغلبية.
أراهنكم، بعد أيام أو أسابيع، ستسمعون عن "عزيمة عرمرمية" في منزل أحد وجهاء السياسة، فالسياسة واجهة كما تعلمون، تجمع رموز المبادرة النيابية مع أبرز خصومهم في البرلمان. كل من اصطف مع هذا الطرف أو ذاك سيخرج خاسرا، ولن ينال حتى دعوة على عشاء المصالحة.
أستطيع أن أتخيل الحوار الذي يدور، لن يختلف كثيرا عما دار في "صلحة" رئيس الوزراء د. عبدالله النسور والنائب يحيى السعود؛ عبارات تودد من الطرفين، وكلام دافئ عن الوحدة الوطنية والتقدير المتبادل "لشخصك الكريم". "المعزب" الوجيه سيفتتح الجلسة بكلام كبير كالعادة عن لوحة الوطن الجميل، وأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، ثم يحرص على أن "يقف" الخصوم على "منسف واحد"، متوجا بذلك نهاية الخلاف السياسي. اللعنة على السياسة، إنها كالشيطان؛ لا تدخل مكاناً إلا تخربه. دعونا من السياسة ولنبقَ إخوة؛ عزوة وعشيرة واحدة، لا شيء يستحق أن نختلف من أجله!
هذا هو واقع الحياة السياسية "المعاصرة" في الأردن. دُلّوني على خلاف سياسي حصل في السنوات الأخيرة بين النواب، أو بينهم وبين الحكومة، ولم يحل بهذه الطريقة. هل هناك من اصطفاف سياسي مضى في طريقه، وأفضى إلى بروز تيارات سياسية ومنابر حزبية؟ لم يعد ذلك يحصل حتى في المعارضة التي تدّعي نفسها بديلا للحكومات والنخبة الحاكمة.
لاحظتم من دون شك، في السنوات الأخيرة، عودة الكلام عن العقد الاجتماعي في الأردن. والمقصود به تلك التفاهمات بين الهاشميين الأوائل وشيوخ العشائر في مرحلة تأسيس الدولة. لم يكن مثل هذا النقاش مطروقا في العقود السابقة؛ فبعد أن تبنت الدولة دستورا قبل سبعين عاما أو أكثر، لم يعد هناك معنى للحديث عن ذلك العقد؛ الدستور هو العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع. لكن الاتجاه المتنامي بالعودة إلى البدايات يسيطر على الكثيرين. سلوك النخبة السياسية اليوم ينتمي لعشرينيات القرن الماضي. "البِدل والسيارات والخلويات" مجرد مظاهر، لا تنخدعوا بها.
(الغد)