كان أكاديمي ومؤرخ أردني مثير للجدل يدعى مصطفى الحمارنة، كلما واجهته مشكلة غريبة يصعب هضمها منطقياً، قال متفكهاً: «الأردن لزيز» [لذيذ]، في إشارة إلى أن الأردن يضم بين أعطافه فيضاً واسعاً من التناقضات، ونطاقاً رحباً من اللامعقول، في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
وعلى رغم أن البلد ذو حكم ملكي وراثي، واتخذ تاريخياً نظام اقتصاد السوق المفتوح، ما جعله أقرب إلى الرأسمالية من أي نهج آخر، وعلى رغم أن علاقاته مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ازدهرت منذ عقود بعيدة، ولم يعرف عنه تقارب حميم مع المعسكر الاشتراكي، إلا أن مصطلح «ليبرالي» أضحى يثير حفيظة كثيرين ممن ينتسبون إلى الفضاء السياسي العام، بحيث صار يُحيل إلى شتيمة أو تهمة. فأن تقول إن فلاناً ليبرالي، يضاهي المعنى نفسه لو قلت إنه «صهيوني» أو «ماسوني» أو «عميل» أو في أحسن الأحوال «غير وطـني» ومرتبط بأجندة خارجية مشبوهة!
وتستبطن المعاني السلبية لمن هو في حكم «الليبرالي» إدانة ليست للشخص وحسب، بل للنظام السياسي برمّته الذي يُتهم بأنه خصخص القطاع العام، وباع مقدّرات الدولة وأصولها، وحوّل المملكة إلى شركة عبر تحالفه مع «الليبراليين الجدد» الذين أوجدوا مؤسسات رديفة لمؤسسات الحكومة استنزفت خزينة الدولة، وضاعفت ديونها، وزادت الأعباء على المواطنين، ودمّرت الطبقة الوسطى في المجتمع.
ولعل هذه الاتهامات التي توجّه إلى الليبراليين في الأردن تملك الكثير من الوجاهة، لأنهم لم يتمكنوا من إنجاز مشروع متكامل لتصوراتهم في الاقتصاد والسياسة والإدارة الاجتماعية، بسبب طبيعة النظام السياسي الذي لا يبلغ معدل عمر الحكومات فيه تسعة أشهر، ما يجعل إنجاز الرؤية قاصراً، في بلد يترقب مواطنوه حلولاً سحرية فورية لمشاكل مستعصية تحتاج إلى نفَس طويل جداً لحلحلتها!
بيْد أن هذه الأخطاء، التي اقترفها بعض الليبراليين لا تخفي الجوانب الإيجابية في التصورات الليبرالية التي لم يتم إتقان ترجمة بعض تعبيراتها، ما أثار مخاوف كثيرين منها، لأنهم نظروا إليها بوصفها نقيضاً للوطنية، على ما تحمله الأخيرة من معانٍ نوستالجية لا يحتمل مفارقتها مجتمعٌ مشدود إلى بداوة معتزة بأصولها وأعرافها ونظامها العشائري الذي ينظر بريبة إلى ما هو «ليبرالي» باعتباره دخيلاً، فيما الليبرالي على الضفة الأخرى لا ينظر بهالة مقدسة إلى الفكرة العشائرية، ويدعو إلى أن تندمج في الدولة، لا أن تكون مكوّنات منشقة عن الفضاء العام، وأن تكون المظلة التي ينخرط الجميع تحـتها هي القانون والمؤسسات الدستورية.
ولعل صاحب تعبير «لزيز» الذي أضحى نائباً في البرلمان قد أثار زوبعة شديدة حينما قال أخيراً، بمنطقه الليبرالي، إن المجموعات البشرية، بمن فيها العشائر، إذا لم تتأطر سياسياً، تتحوّل إلى ميليشيات، وتلجأ إلى الاحتماء بالهُويات والمذاهب وعلاقات القرابة. وهو يرى كذلك أن المجال العام، حين يتفرّغ من السياسة، يمتلئ بالثرثرة!
وكلام الحمارنة، ها هنا، كلام تنظيري محض لأحوال المجتمعات البشرية، وليس مقتصراً على الأردن، لكنّ ذلك لم يحمِ الرجل من تهمة العمالة، وتنفيذ المخططات الصهيونية، وتدمير العشائر الأردنية التي يتردد دائماً أنها حمت النظام الأردني، وآوت الهاشميين، ومكّنتهم من الحكم!
وفي الآونة الأخيرة، صارت تُلصق بالليبراليين في الأردن تهم مستحدثة، فهم أنصار الوطن البديل، ودعاة مشروع الاندماج مع إسرائيل، وما مناداتهم بمنح أبناء الأردنيات المتزوجات من أجانب حقوقاً مدنية وإنسانية إلا مقدمة لتجنيسهم، وهو ما يغيّر المعادلة الديموغرافية في البلد، فيغدو سكانه «الأصليون» أقلية، أو «هنوداً حمراً» وفق تعبير أحدهم!
ومن حق الجميع في الأردن أن يشعر بالقلق تجاه مستقبل البلد، في ظل حديث متواتر عن خطة لحل نهائي للقضية الفلسطينية تفكر فيها الإدارة الأميركية، ويقال إن لقاء الملك عبدالله الثاني بالرئيس الأميركي أوباما، أخيراً، ناقش هذا الأمر، وبحث في تفصيلاته، أو في خطوطه العريضة، وهو ما لا تتم مصارحة الرأي العام الأردني به، ما يجعل المخاوف تتفاقم، والإشاعات تتمدد، فيتمدد معها الاحتقان الذي يتخذ وجوهاً تتجلى أحياناً بمواجهة بين معسكر قوى الـشـد العكـسـي الذي يلوح بـ «هراوة» العشائر، ومعسكر الليبراليين وأنصار المواطنة والحقوق المدنية والدولة الحديثة الذي يعد، مجازاً، حلف الملك.
ويخفي «حلف الملك» في غضونه ظلال حلف يشكل الأردنيون من أصول فلسطينية عصبَه الأساس، على ما يتصور ويبوح به بعض المنتسبين الى المعسكر المضاد لـ «اللبرلة» ممن لا يتورعون عن التلويح بالعصيان، ما يقرّب الأردن أكثر من قلب التوتر الذي لم يبرحه منذ أمد بعيد!
الحياة اللندنية