عيون وآذان (حلب الشهيدة -2)
جهاد الخازن
17-02-2014 04:26 PM
أكمل اليوم بالجزء الثاني من رسالة صديقتي الشابة بنت حلب، ولا أقول سوى أنني أنشر نفثات قلبها من دون تغيير أو تحرير، أو حذف أو زيادة.
صديقي،
لا بد أن ترى معي الوجه الحديث لحلب... جامعتها الكبيرة الحكومية المجانية... لها ولمدرسيها ودكاترتها أفضال كبرى على أجيال من السوريين... هناك مساوئ تمحوها المحاسن وأخطاء نغفرها للبعض... وقبل أن أغادر المدينة معك إلى الضواحي القريبة دعني أمر بالحديقة العامة وأجلس معك تحت ظل شجرة نتحدث ولا ننتهي عن حلب المعمرة... أم المدائن... لحلب حديقة أصغر من هذه اسمها حديقة السبيل... لا تغادرني أفياؤها... ألعب وألهو تحت أشجارها وجدي يراقبني بابتسامة رضى.
من العزيزية الجميلة سنسير بمحاذاة النهر الذي دبت فيه الحياة من جديد وسأقلك بسيارتي إلى المحافظة مروراً بشارع فيصل الأنيق وسنقصد الطريق إلى الريف المدعو بالزربة... هناك معامل ضخمة للأدوية والنسيج أود أن تراها... صروح عظيمة يقف وراءها رجال دؤوبون يعشقون العمل ولا يتذمرون... مئات، بل ألوف الأيدي العاملة تعمل هنا، معظمها من الأرياف القريبة... فرص عمل حقيقية تتوافر هنا... وكسب كبير يجعل من هؤلاء الصناعيين أثرياء كباراً... المزارع تتجاور مع المعامل... واحات غناء مجهزة بكل ما يجعل العيش رغيداً... ملاعب ومسابح وبيوت فارهة تغلق بواباتها على خصوصية لا يسهل اقتحامها... مئات المزارع والمعامل والحدائق والمشروعات الفردية والجماعية لبناء المتنزهات وأماكن الترفيه العائلية...
مناطق صناعية أشتهي أن تراها... تتمركز في الشطر الآخر من المدينة الكبيرة... سنذهب هناك... وسألقي التحية على صهري الصناعي الشاب ونشرب معاً فنجان قهوة على عجل، فرائحة الأصبغة التي يتعايش وعماله معها لن تدعك تطيل المكوث...
هل أنت مفتوح الشهية لزيارة معالم أثرية؟ قلعة ودير سمعان وأوابد عظيمة أخرى؟ ما رأيك... أم تفضل أن نذهب إلى الميدانكي في جبل الأكراد القريب ونتناول الغداء هناك قريباً من البحيرة؟ أشجار الزيتون سترافقنا كل الطريق وصوت صباح فخري معنا صادحاً «درب حلب وامشيته كله شجر زيتوني... حاجة تبكي وتنوحي بكرة منرجع يا عيوني...»
هل دعيت إلى عرس في حلب؟ لأعراسنا الحق في أن تسمى أعراساً...
غناء ورقص وفرح وصخب ومآدب وأناقة وحلي باذخة... والحديث يطول أكثر عن العرس النسائي غير المختلط والتلبيسة الرجالية... صخب لا ينتهي حتى الصباح... سهرة راقية في نادي حلب تستحق أن تمكث معنا يوماً آخر... وجولة في أحياء حلب الراقية ستأخذ منك وقتاً... ولا بأس أن تشاركني رياضة المشي لساعة في شارع «دايت» ستلتقي معي بكل صديقاتي... وسنتبادل التحيات على عجل. أحياء حلب الشعبية لها نكهة أخرى... تصافحك المودة في العيون... والكل سيدعوك ويقول لك تفضل... بياع الخضار والفاكهة وكل ما يمكن حمله على عربة أو وضعه في دكان صغير... بعضهم حلبي والغالبية من أصول ريفية ساقتهم الأقدار للعمل في حلب... يسكنون في عشوائيات لا توفر لهم ما يجب لحياة كريمة... يتكاثرون «كبذر البقلة» كما يقول الحلبيون... لكن شيئاً واحداً أكاد أجزم به... لا جوع أبداً مهما كانت الأوضاع المادية صعبة... فالخبز رخيص والخضار كذلك وكل المواد الأساسية.
هل تحب أن تتسوق معي في «شهبا مول»... أنا أحب التسوق هناك... الرجال لا يحبون، لكنه مكان عصري ومريح وبإمكانك الحصول على ماركات جيدة، ولو كان لديك متسع من الوقت لدعوتك إلى سهرة في يوم اكتمال القمر إلى كرم فستق لتستمتع بليلة موسيقاها طقطقة الفستق وهو يخرج من قشرته القاسية العصية. كم يلزمك من الوقت لترى وجهَيْ حلب القديم والحديث ولتزور معالمها وتشتري من أسواقها... لا تنسَ أن تشتري صابون الغار الحلبي... لا رائحة في الدنيا أزكى من رائحته... أقيس جودة العطور بمدى شبهها برائحة الغار... صديقي... هل أودعك الآن وأملأ جعبتك ببعض الحلوى والمؤونة المجففة التي أحضرتها لك من الخالدية.
هل قلت لك إن كل مكان حدثتك عنه صار كومة حجار... أو أضحى مهجوراً... هل أخبرتك أن مدينة الصناعة والتجارة أصبحت تشحذ على الأبواب؟ وهل أزيدك أن كثيرين ينتظرون إعلان إفلاسها وموتها قريباً... سأصيح لا لا لا لن تموتي يا حلب ولن تعلق نعوتك على جدران الخيانة ما دام الزمن.... لكن لعلي أبالغ... أمنّي النفس بالآمال... الحقيقة هي ما نرى... الخراب في كل مكان ورائحة الموت وصلت إلى السموات السبع.
ربي رحمتك.
صديقتك...
هذا ما تلقيت من صديقتي التي عادت إلى أحلام الطفولة والصبا، وأغلقت عقلها وقلبها عن الجريمة والمجرمين، فهي بنت النور والسلام والإسلام الطاهر.
(الحياة اللندنية)