انحباس المطر الطويل هذا العام يشكل ظاهرة غريبة ؛ حيث يشير بعض الخبراء والمهتمين والمتابعين لهذا الشأن ، ان انحباس المطر على هذا النحو الطويل لم يتكرر عبر سنوات طويلة ، وبعضهم يقول ان هذا الانحباس الطويل الممتد الذي جاء في دورة الشتاء لم يذكره احد منذ خمسين عاما ، تلك الفترة التي يطلق عليها « المربعانية « بالاضافة الى اتصالها « بسعد الذابح « حيث عبرت « كوانين « وتبعها « شباط» بجفاف غريب جدا، يثير مكامن الخوف ولواعج الحزن لدى شريحة واسعة من الفلاحين والمزارعين والمتصلين بالارض ومن أولئك الذين ترنو عيونهم الى السماء في كل ساعة وفي كل حين .
التفسيرات العلمية المادية تقف عاجزة امام هذه الظاهرة التي تستعصي على الافهام رغم تقدم البشرية الهائل في مجال التقدم العلمي ولاكتشافات الكونية، ورغم امتلاك الانسانية هذا الكم الهائل من حجم المعرفة ،حيث يتم تفسير تكون المطر عبر معادلة تتشكل من الشمس والبحور والمحيطات،والرياح والجاذبية ،وعلاقة الارض بما حولها من اقمار وكواكب، وكل ذلك موجود،مما يجعلنا امام حقيقة كونية كبرى اختص بها الخالق _ عز من قائل :» ان الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الارحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرص تموت، ان الله عليم خبير «.
يبدو أن حجم السوء زاد عن الحدود المعروفة والمألوفة ، ويبدو أن حجم الذنوب فاق القدر المأذون من حيث العموم والشمول ، وان العلاقة مع الله ضعفت ووهنت ، وان الايمان اصبح شكليا سطحيا جافا ، يخلو من العمق ، ويخلو من الفهم الصحيح ويخلو من التطبيق والترجمة الى اعمال ووقائع ، وان حجم النفاق والتزلف كبر وانتفخ حتى اصبح ظاهرة اجتماعية ، واصبح الناس لا يستحيون من كثرة الوجوه وتعدد الاقنعة .
لكن الاكثر اتصالا بموضوع انحباس المطر واشد مساسا بظاهرة الجفاف ما يتعلق بجملة من السلوكات من أهمها : أولا : الامتناع عن دفع الزكاة واداء الصدقات ، والاستغراق في البخل والالتصاق بالشح ، وعدم الانفاق في سبيل الله ، وقد ورد عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قوله :» وما منع قوم زكاة اموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا...» في ظل زيادة عدد الاغنياء في الامة والذين لا نكاد نجد لهم اثرا في حل مشاكل مجتمعاتهم التي تعاني من الفقر والحاجة وشدة المؤونة . ثانيا : التلاعب بالمكاييل وانقاص الموازين ، وانتشار الغش وخداع الناس ، والعبث بقوت البشر، والاسهام في الغلاء ورفع الاسعار على العامة ، بلا تقوى وبلا رقيب من الله ، وبلا حسيب من ضمير أو انتماء وطني ، ودون شعور بالمسؤولية ، وقد ورد في الأثر :» ولم ينقصواالمكيال والميزان إلا اخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان «. ثالثا : فساد ذات البين ، وشدة النزاعات الداخلية ، وكثرة الاختلافات بين افراد المجتمع ، وتنافر القلوب وانتشار الغل والبغض والكراهية والحقد والضغينة ، وسوء الخلق وفظاظة التعامل وغلاظة الطبع ،وقطيعة الرحم فهذه الصفات تعد من المهلكات التي تنزع البركة ، وتذهب بالغنى وتجلب الشقاء والمقت وسوء الاوضاع وقلة التوفيق .
وليس هناك اشد على المجتمع من فتنة الاختلاف والنزاع الداخلي وتنافر القلوب ، وقد ورد في الاثر أن صلة الرحم تزيد في الرزق وتنسأ في الاثر. رابعا : كثرة الظلم وشدة الجور والحيف ، سواء كان ذلك من الزعماء والسلاطين والقضاة ، أو من الآباء والازواج وكل اصحاب المسؤولية مهما كانت درجتها ، وقد ورد في الآثار ان الظلم يمحق البركة ويهلك الحرث والنسل ، وأن الحباري في اوكارها والحيتان في بحورها تتأذى من ظلم بني آدم . خامسا : انتشار المعاصي والفواحش والمجاهرة بها ، وارتكاب الكبائر ، والاصرار على الصغائر ، والتجرؤ على الله والاعتداء على الدين والخلق والحق العام يؤدي الى جملة من الكوارث التي تلحق بالمجتمع ، وتصيبه في مقتل ، وقد ورد في الحديث :» إن العبد ليحرم الرزق للذنب يصيبه « .
نحن بحاجة الى عودة جماعية الى الله ، وأن نلجأ اليه بإخلاص وتوبة صادقة نصوحا ، ونستغفره بإنابة ، وان نؤدي الزكاة ، ونخرج الصدقات ونكثر من الانفاق في وجوه الخير ، وان نتحرر من البخل والشح واليد المغلولة ، وان نلتزم بالموازين والمكاييل بلا بخس ولا وكس ولا شطط ، وان لا نغلي في الاسعار ، ونبتعد عن الغش والتدليس والاحتكار ، وان ننشر التسامح بين الناس ، ونعلي شأن الخلق الرفيع وان نصون الحق العام ومرافق الدولة ، وان نرسي العدل ونحق الحق ، وننفي الظلم والعدوان ، وان نصل الارحام ونحسن الى الجوار ، فهذا هو الاستسقاء الصحيح المطلوب .
(الدستور)