في الثالث عشر من شهر شباط من عام 2003 غادرنا الى الرفيق الاعلى ابو عودة ( محمد عودة القرعان ) في يوم ماطر كما يحب رحمه الله لإيمانه بقيمة المياه بالنسبة للحياة ولمم تمنع غزارة الامطار احبته وكل من عرفه ليكونوا في وداع أمين الأمة في عصره وهو اللقب الذي اطلقه عليه الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه لما تميز به من أمانة ونزاهة في حياته .
وأبو عودة من مواليد مدينة الطفيلة في العام 1916 عام الثورة العربية الكبرى وكان والده رحمه الله ( عودة القرعان ) من شخصيات الطفيلة المعروفة والذي عمل في العهد العثماني معلما منفردا في قرية صنفحة الى ان صدر قرار تعسفي بنقله من الطفيلة الى اليمن بسبب مواقفه الوطنية المناوئة للأتراك والذي يعتبر نقلا داخليا حيث كانت البلاد العربية ترزخ تحت الحكم العثماني وقد حال دون تنفيذه القرار اندلاع الحرب العالمية الأولى فتحول فيما بعد الى التجارة .
ترعرع رحمه الله ونشأ في كنف والده المحب للعلم ودرس الابتدائية في الطفيلة التي كانت التدريس فيها حتى الصف السادس وواصل دراسته الثانوية في مدرسة السلط ما مكنه من التعرف على عدد كبير من الشباب الاردني من مختلف مناطق المملكة والذين اصبحوا رجالات الوطن الكبار وانهى دراسته الثانوية في العام 1934 وهنا ُعرف بـ ( ابو عودة ) نسبة لوالده رحمهما الله .
ثم واصل دراسته في جامعة دمشق حيث درس القانون وتخرج في العام 1937 وحين عاد الى وطنه أقام في عمان وبدأ حياته العملية في مجال المحاماة ثم عين في وزارة المالية حتى العام 1940 لُينقل الى سلك القضاء حتى عام 1946 لكنه لم يستمر طويلا اذا تم تعينه في دائرة ضريبة الدخل واصبح فيما بعد رئيسا لقسم الضرائب ليبدأ بالتدرج في المهام والمناصب والتي بداها بمنصب وكيل الجمارك التابعة لوزارة المالية منذ عام 1951 وحتى عام 1962 .
وخلال عمله وكيلا لدائرة الجمارك ( تعادل حاليا منصب مدير عام الجمارك ) زادت معرفة الناس بشخصية ابو عودة الذي تميز بالنزاهة والامانة والانسانية ويروي وزير المالية انذاك ( المرحوم احمد الطراونة ) واحدة من مواقف ابو عودة حيث يقول انه طلب من ابو عودة بأن يتساهل مع المرحوم عاكف الفايز في قضية جمركية وتبين له فيما بعد انه استجاب لطلبه ولكن بصورة لا تصدق اذ قام ابو عودة باستدانة مبلغ من البنك ودفع القيمة الجمركية المطلوبة من الفايز وبذلك ارضى ضميره وارضى صديقه في آن واحد وحين علما الطراونة والفايز بذلك سارع الفايز الى دفع المبلغ الى ابو عودة .
بعد الجمارك تم تعينه مديرا عاما لمؤسسة الاقراض الزراعي وهو المنصب الذي مكنه من خدمة المزراعين حيث كان يعشق الزراعة ويشعر مع المزارعين فيتبنى قضاياهم ويسعى بكل السبل الى حلها والتخفيف عنهم ومن القصص هنا ان ديون احد كبار المسؤولين وصلت الى نصف مليون دينار وكان هذا المسؤول يتمنع عن التسديد فما كان من ابو عودة الا ان قدم استقالته وحين علم الراحل الملك الحسين تدخل وتم سداد المبلغ ورفض قبول استقالته وقد استمر رحمه الله مديرا عاما للمؤسسة لمدة ثمانية عشر عاما .
كان رحمه الله يرفض تقاضي مياومات نظير سفره بمهام رسمية خارجية بكون السفرات مغطية من جميع الوجوه ويعيد ما يستحق له الى خزينة الدولة لكن تبقى وهناك قصة انه استحق بدل عمل اضافي عن فترة ترؤسه لجنة تعويضات للمزارعين مقدرها ( 2500 دينار ) وحين ورده التحويل المالي كلف احد الموظفين باعادة المبلغ الى خزينة الدولة.
علم الملك الراحل باحواله المالية الصعبة فمد له يد العون غير ان ابو عودة اجاب بتواضع ودماثة ( بوركت سيدي واعزك الله ... مستورة والحمد لله ... تحياتي إليك على الدوام سيدي ) ما زاد من تقدير واحترام الملك الحسين له فلقبه بأمين الأمة .
ُعين عضوا في مجلس الاعيان في العام 1980 ولعدة دورات وقد تميز اثناء عضويته انه الوحيد بين الاعضاء الذي كان ينتقد الحكومة مقدما مقترحات لتصويب قرارات لم يكن مقتنعا بها .
وفي الشأن السياسي كان له نشاط سياسي وطني مع مجموعة من الشخصيات الاردنية امثال المرحومين حمد الفرحان ونجيب ارشيدات والشيخ ابراهيم القطان وقد شارك في تاسيس تنظيم سياسي باسم الشباب القومي العربي وانشاء المنتدى العربي واشترك في وقت لاحق مع سليمان النابلسي وعلي مسمار وصلاح طوقان في تأسيس الحزب العربي الاردني وكان من اشد المعارضين للمعاهدة الاردنية البريطانية عام 1946 ومن اصدقائه المقربين جدا الشهيد وصفي التل الذي شكل احدى وزاراته في منزل ابو عودة وقد ُعرض عليها اكثر من مرة حقيبة وزارية لكنه كان يرفض ان يصبح وزيرا .
تم تكريمه رحمه الله بمنحه وسام النهضة من الدرجة الثانية ووسام الاستقلال من الدرجة الأولى وقد رحل الى الرفيق الاعلى في اليوم الثالث عشر من شهر شباط من عام 2003 تاركا ارثاَ خالدا من المجد والسمعة الطيبة والنزاهة والامانة قل نظيرها .