لماذا لا نلمس أثرا للتعليم في حياتنا، التي تزداد ضنكا، ولا في أوضاعنا التي تزداد تردياً وفساداً، رغم هذا العدد الكبير من المدارس والجامعات والتخصصات التي لا تخطر في البال، ورغم العدد الهائل من الخريجين في مختلف الحقول، ورغم ان الشباب يضيّعون ثلت أعمارهم تقريبا على مقاعد الدرس ولكن النتيجة تعالُمٌ فجٌ ورفضٌ للآخر ورفضٌ لأي فكر خلاق .
الظاهر أن التعليم فشل في الاصلاح واحداث التغيير الثقافي والاجتماعي المطلوب لدينا تجاه القضايا التي نعاني منها كالفساد والمحسوبية والعنف واحترام الآخروتعظيم الجوامع....، وبقينا ندور ضمن دائرة الثقافة المتوارثة السائدة المغلقة،
لا يختلف اثنان على حقيقة اصلاح التعليم، الذي يعتبر ضرورة لا بد منها من اجل النهوض بالمجتمع واستمرار عجلة الحياة بشكل سليم وبات الحديث عن هذه الحقيقة بمثابة الضروريات التي لا تكاد تنفك حياة الافراد عنها من اجل ضمان آمن لمسار الحياة بكل تفاصيلها.
وتتعالى دعوات وشعارات بين الحين والآخر منادية باصلاح التعليم، وتطويره واعادة هيكلته، ومؤتمرات ومبادرات اصلاح بنية المدرسة والجامعة واعادة هيكلتها، ومعالجات العنف الجامعي واعادة الهيبة للتوجيهي ... وصحافة تدعي البحث عن الحقيقة الضائعة، وملايين تهدر هنا وهناك، كل هذه الدعوات تبين ان التعليم في أزمة وان عدم اصلاح العملية يعد جريمة، في وقت اصبح الناس غير مقتنعين ولا راضين بمخرجاتها.
يظهر إيمان كبير بإصلاح التعليم، ولكن: سر التباطؤ والتثاقل في إصلاح التعليم، مع وجود الاجتهادات المحمومة لذلك، هو أن البيئة التعليمية بكل ما فيها من نقاط ضعف ونقاط قوة غير كافية، دون أن تُحاط بثقافة تدفع بالإنسان إلى أن يتفاعل معها بشكل إيجابي، وأن نظام التعليم مهما تكاملت مكوناته فلن يستقيم في ظل ثقافة تعزز أحادية التفكير، وتعشق البيروقراطية والأنا،
مثلاً، النقد ليس محبباً في ثقافتنا، هل يستطيع المعلم أن يُعلم هذه المهارة لطلابه؟ أو الأستاذ في الجامعة لطلابه وهو لا يؤمن بالنقد كقيمة حقيقية في عصر انتقل فيه العلم إلى منطق الاقناع ونحن في أشد الحاجة الى الاقناع وتقبل وجهة النظر الاخرى التي قد تكاد تستعصي على التنوير منذ زمن طويل ومتشبثة الى حد كبير بماضويتها .
إن حرية التفكير في التعليم تقف في قبالة ثقافة الاستعباد. عندنا، السلطة ثقافة، المدير يتعامل مع موظفيه بسلطوية، وكاريزما المدير تفرض هيمنتها على المرؤوسين، هل يستطيع المعلم أن يُجرد نفسه من هذه الأجواء ويُعلم الطالب حرية التفكير مثلا؟
إذا كنا مقتنعين بحرية التفكير كقيمة إنسانية في التعليم فلماذا نتردد في تعليمها كحق من حقوق الإنسان؟ فالتعليم بلا ثقافة إنسانية واضحة المعالم لا ننتظر منه أن يخرج لنا عقولاً مبدعة ومنتجة وفاعلة في هذه الحياة.
يبدو ان دعوات الاصلاح اصبحت مجرد روتيناً متجسداً في حوارات ومناظرات اعلامية ونقاشات وتجارب، حتى أفرغ المفهوم من روحه ومعناه الذي يعني إصلاح للتفكير وليس إعطاء معلومات، وإحلال تصورات صحيحة ومعارف ممحصَّة محل تصورات ومعارف خاطئة...
في الكونجرس الامريكي، تم استدعاء "بييل جيتس" مؤسس شركة "مايكروسوفت"؛ ليتم النقاش معه حول إصلاح التعليم، وإذا به يتحدث وهو حزين: "إنني أتحدى التعليم الأميركي الآن بإنجاب عقول مبدعة، كالعقول الهندية، والصينية، والباكستانية، والماليزية، إن ما يأتيني منهم أفضل مما يأتيني من أميركا". ترى لماذا هذا الانزعاج و الحزن الصادر من "بييل جيتس" وخصوصاً أنه يتحدث مع أفضل دول العالم في التعليم؟ لماذا لم يتحدث معهم بلغة الفخر، والبهرجة، مع أنهم يستحقون ذلك الثناء؟
يبدو أن المعيار في المراهنة عند هذا الرجل ليس التصنيف العالمي في التعليم، بل المعيار هو التصنيف العالمي للعقول المبدعة والمنتجة، إنهم بهذه الشفافية وبهذه اللغة تقدموا ليحملوا لواء العلم والمعرفة، إن ثقافتهم أولاً وبالذات منصبة على الاهتمام بالفكر الخلاق وصناعة العقول المبدعة، التي بها استطاعوا أن يحققوا هذا النظام التعليمي المتطور الذي تشهده الدول الغربية، إنهم يتعاملون مع العقل بأنه المعادلة الأصعب في بناء كل صناعة حضارية، ولعله أكبر حتى من بترول العرب كله! الأمر الذي انعكس على وعي الفرد، فالطفل في مرحلته الأولى ومنذ ولادته في الحضانة مروراً بالروضة يُعطى برامج تحفز عقله على التفكير، الأًم هناك تعرف بأن طريق الإنتاج يكون بالقراءة فتقرأ لابنها، المعلمة في مرحلة الروضة تَعلم بأن صناعة العقول تبدأ من المكتبة الصفية.
وبعد،، فإن التعليم تراه يسير ، عكس اتجاه التنمية ورفض الأفكار الحديثة ذلك لانه يدرّس كمسائل ومواضيع وتخصصات مما يجعله غير مؤثرة في حياتنا ولا في أوضاعنا، وهو في الأصل طريقة تفكير ومنهج بحث وأسلوب حياة مما يستدعي عملية اصلاحية شاملة وتداخلات جراجية مؤلمة.