عندما تسمع خطب السياسيين الأردنيين، وتقرأ مقالات بعض الإعلاميين، يخيل لك أن الأردن دولة بقوة أميركا وروسيا مجتمعتين، وأن اقتصادها يضاهي اقتصاد الصين واليابان.
ليس كافيا أن يرفض الأردن مطلب "يهودية الدولة"، وإنما عليه أن "يكحش" وزير الخارجية الأميركي جون كيري من المنطقة، ويرفض خطته، حتى قبل إعلانها. ومن ثم، إلغاء اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل فورا ومن دون إبطاء.
هذا على الجبهة الغربية. أما على الجبهة الشمالية مع سورية، فليحرك "جيوشه" فورا؛ يحتل درعا ويتوجه صوب دمشق يسقط نظام الأسد. ومن يقف في الضد من هذا الخيار ليس أقل تطلبا. فعلى الأردن أن "يشمع الخيط" مع السعودية وقطر، ويفتح النار على حكامهما. وأصحاب هذا المطلب "المتواضع" يعودون في اليوم التالي ويطالبون دول الخليج بتقديم المليارات لإنعاش الاقتصاد الأردني المنهك!
والحال نفسها مع أميركا؛ نلعنها في الصباح، وفي المساء نتساءل باستغراب: لماذا تأخرت واشنطن عن تقديم المنحة هذا العام؟!
ينقطع الغاز المصري بفعل التفجيرات، ويتوقف العراق عن توريد النفط للأردن، فيكون الرد بتحذير الحكومة من "مغبة" رفع الأسعار، وحثها على البحث عن بدائل، من دون أن يكلف أحدهم خاطره ويقدم البديل؛ وكأننا في سوق عطارة لا سوق عالمية لا نملك فيها قولا.
ولا يحلو للبعض المطالبة بالاعتماد على "عمقنا" العربي بدلا من الغرب ومساعداته، إلا في هذا الوقت الذي تواجه فيه نصف الدول العربية خطر التحول إلى دول فاشلة، وتغرق أكبرها في حروب داخلية لا نعرف نهاية لها؛ دول لم تعد قادرة على إطعام شعوبها، ونريدها أن تتكفل برعايتنا.
لدينا مشكلة عويصة نهرب من الاعتراف بها أو مواجهتها منذ زمن، وهي باختصار: المبالغة في تقدير الذات، والوهم حيال دورنا وقدراتنا وموقعنا أيضا. وقد تكون الدولة الأردنية هي المسؤولة تاريخيا عن صناعة هذا الوهم عند الأردنيين؛ فالأردن دولة الثورة العربية الكبرى ولا عروبة سواه، ومكانته على الخريطة تمنحه ميزات لا يدانيها أحد، وكأننا الدولة الوحيدة في المنطقة، ومن حولنا فضاء نسبح فيه.
شب الأردنيون على هذا الخطاب الذي يفخم الذات، ويراها فوق الأمم أحيانا، متجاهلا حقائق التاريخ والجغرافيا وعناصر القوة اللازمة للدول.
لسنا أقل شأنا من جيراننا، هذا صحيح. والأردن يظل في كل الأحوال قصة نجاح. والأردنيون أبطالها من دون شك. لكن، دعونا من المبالغات، ولنتذكر على أي أرض نقف، وكم من المصاعب التي تحد من قدرتنا على ادعاء ما لا نستطيع فعله.
بالمناسبة، الناس أقل ادعاء من النخب السياسية، وأكثر واقعية. منذ يومين، كنت والزميل الدكتور محمد أبو رمان، في حوار بمنتدى سحاب الثقافي، وكان موضوع الحوار، كالعادة هذه الأيام، هو "خطة كيري". مداخلات الحضور كانت مفاجئة في عمقها وواقعيتها، والأهم حرصها على السلم الأهلي في البلاد، والابتعاد عن المغالاة في الشعارات، وإدراك المحددات الموضوعية التي تحكم حركة أصحاب القرار فيما يخص التصورات المطروحة لحل الصراع في المنطقة.
في دراسة لباحث أردني حول موقف اللاجئين من مسألة حق العودة والتعويض، نشر موقع "عمون" الإخباري ملخصها أمس، ظهر أن أكثر من نصف أفراد العينة "2400 فرد"، لا يرغبون في العودة ويقبلون بالتعويض والاحتفاظ بالجنسية الأردنية. ومن تبقى اختار إما الإقامة في دولة فلسطين بعد قيامها، أو الهجرة إلى أوروبا وأميركا.
أراهن أن أصحاب الأصوات العالية في المعارضة والنخب، سيهاجمون الباحث، ويتهمونه بالعمالة، قبل أن يتوقفوا للحظة ويفحصوا فرضياتهم المعدة سلفا عن مزاج "الجماهير".
لو تحلى الجميع بقدر من الواقعية، لأمكاننا التغلب على أوهام تركبنا منذ عقود.
(الغد)