ليس الرأي العام التركي وحده من صُدم بالتسريب الصوتي الأخير لرئيس الوزراء رجب طيب إردوغان، الذي يثبت بوضوح إمساكه وضغطه المباشر على وسائل الإعلام. فلطالما حذرت المعارضة التركية من توسع ما تصفه بالمثلث الأسود، أي الحكومة ورجال الأعمال والإعلام، بصفته مثلثا يُطبق جديا على كل محاولات خلق إعلام مستقل وقوي في تركيا.
والخيبة من فضائح إردوغان دوت أصداؤها شرقا وغربا ولم ننجُ - نحن مَن نتطلع إلى النموذج التركي بصفته وصفة ناجحة للمواءمة بين الإسلام والحداثة في العيش والاقتصاد والحريات النسبية - من الشعور بالإحباط جراء المعاني السلبية التي حملتها سلسلة من الإخفاقات التي تكشفت.
فالفضيحة الأخيرة هي تسجيل متوافر على «يوتيوب» ويُسمع فيه إردوغان وهو يطلب من مسؤول قناة فضائية بارزة سحب خبر من شاشتها لعدم موافقته على مضمونه، وهذا التسجيل حدث خلال مظاهرات حديقة «غازي» الأخيرة، فما كان من المسؤول إلا أن امتثل سريعا للطلب وسحب الخبر. تزامن ذلك الكشف مع طرح مشروع قانون جديد يعزز الرقابة على الإنترنت، هذا في حين فقد ما لا يقل عن 100 صحافي عمله منذ بدء الكشف عن فضائح الفساد التي طالت إردوغان وأفرادا من عائلته أواخر العام الماضي. إخفاقات يضاعف منها استمرار تبوؤ تركيا لمنصب السجان الأول للصحافة في العالم، أي أنها لا تزال تتقدم حتى على الصين في مسألة سجن الصحافيين. واليوم، وبحسب معارضين، فإن إردوغان يسيطر على نحو 80 في المائة من وسائل الإعلام في تركيا، وشهد عهده أكبر نسبة طرد للصحافيين من وظائفهم.
من يتابع المشهد التركي يفاجأ بالتداعي السريع والدرامي للصورة الناصعة التي حيكت حول شخصية إردوغان الجدلية، التي داعبت مخيلة وتطلعات شريحة واسعة من العرب؛ فقد تفاعل الشرق العربي مع هذه الشخصية الكاريزمية. ففي عهده أعاد العرب اكتشاف تركيا وشغفهم الذي لم يتوقف حيال ماضيهم مع الإمبراطورية العثمانية. في العقد الأخير، عاودت تركيا التسلل إلى وجدان العرب عبر اقتصاد واعد وسياحة وحداثة وطبيعة آسرة، وعبر مسلسلات وجميلات ووسماء ملأوا فضاءات وأحلام العرب.
ففي واقعنا العربي الصعب هذا كثيرا ما لاحت لنا تركيا وسعيها للانتقال نحو الديمقراطية، بوصفها حافزا، وربما رافعة أيضا يمكن أن تساعد العرب على إنجاز خطوات مماثلة.. لكن الانتكاسات التي تتكشف تظهر كم بات إردوغان عاجزا عن الفصل بين العام والخاص، وكم أن المسار التركي نحو الديمقراطية لا يزال متعثرا.
لقد مثل إردوغان في مراحل حكمه الأولى استدارة تركية نحو الشرق فيما كان خصومه الأتراك منجذبين نحو جيرانهم الغربيين. راح الرجل يخاطبنا بلغتنا محدثا اهتزازات في الجسم التركي.. نجاحات الخارج لم تسعفه في الداخل، فهو خسر بفعلنا شرائح واسعة من الرأي العام التركي، ولم يتمكن من إحداث نقلة فعلية في العلاقة مع الأكراد، وها هي الوقائع تتكشف عن مضامين هشة لسلطته.
ها هم العلمانيون الأتراك الأقرب إلى الغرب يتقدمون، أما إردوغان فالأرجح أنه لم يبقَ له من مشرقيته سوى الاستبداد.
(الشرق الأوسط)