عندما حطت الطائرة، في مطار عاصمة من عواصم «الربيع العربي»، التي استتب الأمر فيها للثوار فصاروا حكاماً، تقدم صاحبي من نافذة ختم الجوازات التي صار الموظف الجالس خلفها يقلب صفحات جواز سفر صاحبي، وينقل نظره ما بين صفحات جواز السفر، وجهاز الكمبيوتر، ووجه صاحبي، قبل أن يطلب منه الانتظار لدقائق.
عندها تذكر صاحبي ماذا عنت دقائق الانتظار قبل نيف وعشرين عاماً في نفس المطار، قبل ان تطيح الثورة بالحاكم المستبد الذي كان على سدة الحكم آنذاك، وكان يمنع الناس من الدخول والخروج إلا بشق الأنفس، قبل ان تطيح به أحداث ما صار يُعرف «بالربيع العربي»، الذي كانت من أهم أسباب قيامه المطالبة بالحريات، وأهمها حق الناس بالتنقل الذي هو أول وأهم حقوق الإنسان. ثم إن صاحبي ليس له موقف مضاد من النظام السياسي في الدولة التي نزل بمطارها بدعوة رسمية من حكومتها؛ بل على العكس من ذلك.. فقد كان سبب توقيفه قبل خمسة وعشرين عاماً في ذات المطار، فقط لأنه شارك في مؤتمر كان زعيم المعارضة آنذاك، والذي صار الآن سيد البلد وحاكمها مشاركاً في ذلك المؤتمر؛ فلماذا يظل قيد صاحبي لدى أجهزة الأمن بعد أن تغير قيد زعيم المعارضة فصار حاكماً؟!.
مرَّ بعض الوقت قبل ان يُسمح لصاحبي بالدخول بعد جهود ممثل الوزارة الداعية له للمشاركة في مؤتمر ثقافي، يعقد في تلك العاصمة من عواصم «الربيع العربي»، وخلال فترة الانتظار ثارت في خاطره عشرات الأسئلة، وارتسمت في خاطره عشرات الصور لمعاناة الإنسان العربي في مطارات بلاده التي تفتح أحضانها للغريب دون أبنائها، كان الحال كذلك قبل «الربيع» وظل كذلك بعده.
في الفندق سأله بعض مضيفيه عن رأيه بما شاهده في بلدهم بعد غياب ما يقارب ربع قرن، فقال: إنه لم يفاجأ بأن تغيراً ما لم يطرأ على مباني المطار، لكن المفاجأة كانت بأن تغيراً لم يحدث على نمط المعاملة في المطار، ولا على قيوده الأمنية، خاصة تلك التي لها علاقة بالسياسيين، وبحرية الرأي، التي كانت أهم مطالب المعارضة قبل ان تصل إلى الحكم. مثلما كانت أهم شعارات «الثورات».. عندها ابتسم المضيفون وقال أحدهم: يا أخي إن وزارات الداخلية لا تتغير، وسياساتها ثابتة!.
والسؤال: إذا كانت سياسات وزارات الداخلية، وأساليب عملها، وعلاقاتها بالمواطن والزائر لا تتغير، فما الفائدة إذن من الثورات وسفك الدماء؟ فالأصل أن الحرية هي أهم مطالب الناس، وبه ترتبط كرامتهم وسائر حقوقهم، وفي مقدمتها حقهم في إبداء الرأي، دون ان يصبح له قيدٌ أمنيٌ، وحقه في التنقل دون قيد أو شرط.
خاصة إذا كان هذا القيد بسبب آرائه ومواقفه السياسية التي يعبر عنها بالطرق السلمية المشروعة، وقد زعم أهل «الربيع العربي» أن هذا ما يسعون إليه. فلماذا يتباطؤون في تحقيقه وقد صار الأمر لهم؟ علماً بأن تصحيح القيود الأمنية ذات الطابع السياسي لا تحتاج إلى مخصصات اقتصادية. ولا إلى وصفات البنك والصندوق الدوليين؟ سؤال برسم أنصار الربيع العربي الذي زادت في عواصمه القيود الأمنية، فبالإضافة إلى القوائم السابقة، صار هناك قوائم للمعارضة الجديدة.
وعن أي تغيير نتحدث، إذا كنا نسلم بأن سياسات وزارات الداخلية وأساليبها لا تتغير. أم أن أمتنا ستصحو على كابوس الحقيقة بعد فترة لتجد أن أهل «الربيع العربي» تخلوا عن شعاراتهم بالحرية والكرامة، مثلما تخلى أهل انقلابات القرن الماضي عن شعاراتهم بالوحدة والتحرير، فأضاعوا المزيد من الأرض العربية، وصارت الوحدة شذر مذر؟.
(الرأي)