مِغْزلُ غاندي في زمهريرِ لندنْ
ممدوح ابودلهوم
08-02-2014 04:42 PM
كثيرة هي المؤلفات التي تحدثت عن الزعيم الهندي الراحل (المهاتما غاندي) ، أو كما كان يحلو للهنود مناداته أو تسميته بـِ(بابو) الأمة الهندية ، ولا زالت مطابع دور النشر شرقا و غربا شمالا وجنوبا ، تخرج علينا بين الحين و الحين إما بأسرار جديدة أو بمعالجات أخرى ، حول نهجه الفكري أو خطه السياسي أو سيرته الذاتية الحبلى بالمختلف و الجدلي ، ولا عجب إذ كان الرجل شاهد عصر و صاحب نظرية و صانع تاريخ في المقام الأول ، و الذين شاهدوا العمل السينمائي الضخم الذي أنتج في مطالع الثمانينات حول سيرته ومسيرته ، و الذي جسد شخصيته باقتدار عال و غير مسبوق درامياً النجم البريطاني الهندي الأصل (بن كنغزلي) ..
وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر كما كانت تقول العرب ، فقد شارك في هذا العمل الضخم الذي تجاوزت ميزانيته آنذاك (20) مليون جنيه إسترليني ، النجم الأميركي الذائع الصيت (مارتن شين) و بطلة ( دكتور جيفاغو) النجمة البريطانية (جولي كرستي) ، أقول .. الذين شاهدوا هذه الملحمة السينمائية لا بد و قد وقفوا مليّاً ، على أهمية هذا الزعيم الذي شغل الدنيا و ملأ الناس حتى منتصف القرن الماضي ..
على الجملة .. فذات مساءٍ ربيعي رائعٍ بين رطيبٍ ودفيء ، كنت على موعد مع جديدٍ حول هذه الشخصية التاريخية تَجسَّد في شريط تسجيلي متلفز ، يسلط الضوء على جوانب خفية وأخرى جديدة في حياة غاندي ، فضلا عن المفاصل الرئيسة المعروفة التي تدخل في جذور تكوينه كشخصية استثنائية و رجل عظيم ..
ففي غرة أيلول عام 1931 من القرن الماضي ، كان على الباخرة البريطانية في طريقه إلى عاصمة الضباب لندن ، بغية حضور (مؤتمر المائدة المستديرة) وذلك بهدف التفاوض ، حول استقلال شبه القارة الهندية عن الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس (بريطانيا العظمى) ، وهو الإستقلال الذي لم يتم إلا في مرحلة لاحقة و تحديداً عام 1947 ..
ومع أن الزعيم المهاتما غاندي كان على علم بفشل المباحثات مسبقاً ، إلا أنه أحدث زلزالاً إعلامياً وذلك باستخدامه مغزله اليدوي ، الذي كان يصنع عليه ملابسه التقليدية ذات القطعتين وأحيانا القطعة الواحدة ، حتى إذا ما تبعه في هذا التقليد أبناء شبه القارة الهندية ، إستجابةً كاملةً وتلبيةً تامة لنداءاته المتواصلة في خطاباته الأكثر تواصلاً ، في جميع ولايات وأصقاع القارة الهندية بمساعدة الأحزاب الوطنية ، وبخاصة حزب المؤتمر برئاسة جواهر لال نهرو (والد أنديرا غاندي) أول رئيس حكومة لجمهورية الهند ، وحزب العصبة الإسلامية برئاسة محمد علي جناح أول رئيس لجمهورية باكستان الإسلامية بعد الإنفصال ..
قلت إذا راح أبناء الأمة الهندية يلبسون (زي غاندي) ذي القطعتين أو القطعة الواحدة - وقد فعلوا ..
تطبيقاً لنظرية المغزل آنفاً ، ما محصلته آنذاك كان توجيه الضربة القاصمة وبامتياز لظهر الاقتصاد البريطاني ، إذ كان القطن الهندي يذهب مجاناً إلى بريطانيا العظمى ليُصنّع هناك ، ليُصار إلى تصديره من جديد إلى الهند على شكل ملابس أوروبية ، تعود بالنهاية بملايين الجنيهات على خزينة الإمبراطورية العظمى..
من هنا ووفقا للذي سقناه أعلاه ، فإن مغزل المهاتما الراهل نظريةً فتطبيقاً باصطفافه الذي كان ، إذ استوى بالنتيجة وتبعاً للذي شاهدناه على الشريط المتلفز مكانيزماً ضارباً ، قلب به غاندي الطاولة على لاعبيها الكبار ، إذ ما أن ظهر في الأفق حتى كانت الملابس الأوروبية وقودَ الحرائق في جميع ولايات شبه القارة ، الأمر الذي كان وراء إغلاق مصانع الألبسة في لندن وليدز ومانشستر و غيرها بالتالي ..
جدير هنا بالتنويه والإضافة أنه استفزازاً وتحدياً محسوبين ، لم يتوقف عن عملية النسج والتلويح بالمغزل وهو على الباخرة أمام جميع المستقبلين البريطانيين ، حتى أنه حين سأله نائب الملك المندوب السامي ، قبل سفره أن يرتدي الزي الأوروبي ، رفض معلقاً : (أنني لن أنال الإستقلال إلا بلباسي هذا ولولا طقس لندن لرأيتني بقطعة واحدة لا بقطعتين) ، لا بل أن هذا المغزل قد رافقه أثناء إطلاقه النكات مع المسرحي الشهير (شارلي شابلن) ، لكن الأدهى أنه كان أيضا معه أثناء لقاءه بعمال النسيج العاطلين عن العمل، يلوح أمامهم بهذا المغزل الذي كان السبب في حرمانهم من لقمة العيش !
ومن لندن غادر متجولاً في أوروبا بعد إذ غسل يديه من الإستقلال ، تماماً كما كان يتوقع قبل حضوره المؤتمر المذكور ، حين علق قبل صعوده الباخرة بأن المؤتمر هو بمثابة (شيك مسحوب على بنك مفلس) !، وفي روما قال لـ(موسوليني) بصراحة أن (الفاشية) ستهوي كما بناية من كرتون ..
وبعد .. إن هي إلا مقالة مبتسرة خُطّت على عجل ، في حياة رمز فذ وزعيم استثنائي جدلي وعظيم كان بحق أمةً في رجل ورجل في أمة ، ناهيك به صاحب شخصية ملأى بالعجيب الغريب ، لها مفاتيحها العبقرية بحسب المنهج العقّادي لصاحب العبقريات (عباس محمود العقّاد) – ليست بأي حالٍ وكل حينٍ صعبة القياد وإلا لما كان ذلك السيل العرم من المؤلفات والأفلام ، ومهما يكن من تقاطعات ذلك كله ، خلوصاً ، فإن أهمية غاندي .. فيما أحسب تكمن في أهمية شبه القارة الهندية ، والتي كانت وما زالت تتلظى سوسيولوجياً دينياً ونووياً على صفيح ساخن !!!