لا تحتاج الكثير لتبعد عنك وتريح روحك منهم و منك . كل ما عليك كي تخرج من الدوامة - دوامة الحياة اليومية طبعاً - أن تخلع عنك تكشيرتك المعهودة وهمومك الأبدية فاتورة فاتورة، قسطا قسطا، وخوفا خوفا من لهيب أسعار أو نار تشتعل في مدن أشقاء لك، بينك وبينهم إخوة دم وتاريخ شوهها الغزاة و المحتلون المقيمون و العابرون وأبناء الشياطين .
ما عليك إلا أن تنام ساعة أكثر، تنبّه نفسك أن اليوم إجازتك، تغيّر الروتين اليومي ما استطعت تغييرا، وتعلن لعائلتك أو ما تبقى منهم في بيتك، بلهجة فرحة و عيون مرتاحة، أن اليوم للفرح ومن لديه نكد أو مرض فليؤجله إلى الغد .
لم تعد مقولة « لا تؤجل عمل اليوم الى الغد « تناسب زمننا العربي الرديء الذي بلا حاضر ولا غد، إنه فقط ماض نتغنى بمجده ونتناسى السيئ منه حتى تراكم وانفجر ودمّر و حرق دولا بأكملها .ولا طريق في الأفق إلا الى الهاوية.
طريق عجلون أجمل منها، وهي أجمل من بنفسجة على صدر امرأة . ما أن تخرج من عمان حتى تتحرر عيونك من بياض حجرها . ترى على يمينك بساطا أخضر مما زُرع ومما نبت في الأرض وحده، انها قدرة الخالق تتجلى فيما خلق .
في الطريق تتسع حدقة العين كلما امتد السهل . وعلى يسارك قمم جبال وتلال وبين كل جبل و جبل سهل . للقمم شعر حريري من شجر، ولا تدري كيف نبتت البذرة في قلب الصخرة وتمددت على جسد التراب في السهل . هل ثمة من غرسها أم أن الطير حملها من موطن الى موطن لينبت الحياة في الصخرالأصم .
كلما سارت بك السيارة تتفتح روحك على آيات من الجمال شرط ألا تسرع . تذوّق الهواء، تمتّع بمنظر الحجر كيف نحتته الريح اشكالا جميلة حية، قفْ حين ترى عرق الفلاح كيف أثمر رمانا وباذنجانا وعنبا و توتا وتفاحا . الفاكهة والخضار طازجة كوجه الصبح، قريبة من أمها الشجرة، وهل ثمة لقمة أو حبة خوخ او عنقود عنب أحلى من يد الأم ؟
أنت الآن في منتصف الطريق تحنٌّ الى فنجان قهوة فترى على يمينك اكشاكا تجلس مبتهجة على تلة تغتسل بالريح النقية . يؤشر لك فتى برائحة القهوة . توقفْ أنت الآن بانتظار أول رشفة، والسيجارة مهما رفعوا سعرها تبقى رفيقتك التي لا غنى لمزاجك عنها .
تمضي خلف ضحكات تفتقدها طوال الأسبوع، ضحكات شجر و حجر و هواء غير ملوث بالبنزين و مشهد الحاويات و المنافقين . الجمال في الطريق لا يكذب، في المدينة ما أكثر كذب الكذّابين . تخرج من بين أعمدة التاريخ في جرش لتدخل تاريخا آخر، قرى مغروسة منذ آلاف السنين، يتبدّل البشر، تموت حيوات ولا تموت اشجار ولّدت اشجارا وحجارة بنت حضارات . ما أشهى رائحة التاريخ ونكهة الطيبة في وجوه أناس تسألهم عن الطريق الى عجلون . تسير على مهل حتى لا تفوتك قطعة جمال، عبق شجر، صنوبرة مالت على كتف صخرة منذ الثلجة الأخيرة .
تشاهد من بعيد القلعة، أنت الآن في حضرة التاريخ، وفي حضن الطبيعة، طبيعة الأردن التي نعشق، مرتفعا عن سطح البحر وعن سطحية حياة المدينة التي جعلتك رقماً .
دع عنك وزرك، ومن اشتراك وباعك، ومن لا يدرك أن الحياة همسة حب، كلمة صدق،نسمة عجلونية تعيد لك نفسك .
(الدستور)