استدعى قرار الحكومة بتمليك مواطني مدينة معان، ثم محافظة معان، أراضي بمساحة دونم في منطقة صحراوية تدعى "وادي العقيق"، ردود فعل عديدة، ملخصها أن القرار افتقد الحكمة في مضمونه وفي توقيته وفي شكله، بل وصبّ المزيد من الوقود على نار الاختلالات التنموية والأمنية التي تعاني منها المناطق المهمشة. لاحظنا ذلك في ردود الفعل التي لجأ إليها أفراد في منطقة الحسينية، وظهور مطالب في محافظات الشمال بتخصيص أراض لسكانها، وعودة مفهوم ومطالب ما يسمى "الواجهات العشائرية" من جديد.
لا يُعقل أننا إلى هذا اليوم نؤمن بأن الأوطان تُدار بذهنية العطايا والصدقات الجماعية. فمحافظة معان وغيرها، بحاجة إلى التفات الحكومة إليها، وبجدية، في أمور أهم بكثير من دونم أرض مجهول في عمق الصحراء. وكان الأجدى للدولة أن تراجع تجربة منطقة معان التنموية؛ ما لها وما عليها.
وأن تلتفت الحكومة أيضا إلى جامعة الحسين الحائرة في رواتب آخر الشهر، وأن تأتي بأفكار لإنقاذ قطاع النقل، وتستدرك ما تبقى من الطريق الصحراوي الذي يربط محافظات الجنوب بالعاصمة، كما يربط الأردن بثلاث دول، لكن لم يتبق منه سوى جزر من الأسفلت. أيضاً، أن تنظر الحكومة في نسبة الفقر التي تتجاوز ربع الأسر في تلك المناطق، أو فشل صندوق تنمية المحافظات في تغيير شكل ولو شبر واحد في الصحراء. وأن تفكر في عشرات آلاف من الشباب العاطلين عن العمل الذين نصدرهم للمجهول والأوبئة الاجتماعية والمخدرات. وثمة مصفوفة طويلة لا تنتهي من الأولويات التي غابت.
على كل حال، هذه مناسبة للانتباه إلى أنماط تدخّل الدولة بإدارة الأراضي في الأردن خلال سنوات مضت. إذ تشكل ملكية الأراضي في الأردن إحدى الأزمات الكبرى المدفونة، التي لا تلاقي الاهتمام الحقيقي؛ حيث تختلط الأوراق والرمال، ولا ندرك حجم المشكلة إلا حينما نستيقظ على أزمة ممعنة في التعقيد. ولأنه لا توجد لدينا رؤية واضحة حول تاريخ ملكية الأراضي واستخداماتها، وحدود دور الدولة، تتعقد المسألة في أبعادها القانونية والاجتماعية والاقتصادية.
خلال السنوات القليلة الماضية، برزت ثلاثة أنماط للتدخل في إدارة الأراضي، لا يحمل أي منها مرجعية شرعية، أو عمقا اجتماعيا وتاريخيا. أولها، تدخل الدولة بوضع اليد على أراضي عرفت تاريخيا، وقبل نشأة الدول، بأنها المجال الحيوي لقرى أو بلدات، وبعضها مسجل بالأسماء الصريحة. إذ جاء تدخل الدولة تحت ذرائع متباينة، أو بالتصرف غير الرشيد بأملاك وأصول عامة.
أما النمط الثاني من التدخل، فهو التسهيلات التي تقدمها الدولة لرجال أعمال يظهرون فجأة في عرض الصحراء وعلى أطراف المدن والقرى، ويشترون آلافا من الدونمات بـ"تراب الفلوس"، ثم تباع أجزاء منها بالملايين. أما الشكل الثالث، فهو التدخل بمنح آلاف الدونمات من الأصول العامة على شكل عطايا، كما حدث هذه المرة.
هذا بينما ما تزال الحكومات، منذ عقود طويلة، عاجزة عن إنجاز أعمال التسوية. وما تم منها في مئات القرى وعشرات المدن، يشكل مستودعا لأشكال وألوان من الفساد.
في المقابل، ثمة أنماط أخرى من التدخل الحكيم غابت، ويمكن أن تشكل مدخلا تنمويا وقيمة مضافة على الاقتصاد الوطني ونوعية حياة المواطنين؛ مثل مبدأ الحِمى أو الأراضي المحمية. وكذلك الانتقال في تمليك أو تخصيص الأراضي العامة للنفع، من الأسس القرابية، إلى أنماط الاستيطان، أو على شكل تعاونيات أو وقفيات لنفع المؤسسات التعليمية أو الصحية على سبيل المثال.
لا يعقل أن بلدا لا يوجد فيها سوى منفذ بحري واحد، بشاطئ يمتد بضعة كيلومترات، يتم تمليكه للقطاع الخاص، ولا يوجد فيه شواطئ للعامة. ولا يعقل أن بلدا لا تتجاوز فيه المناطق الحرجية 2 %، يتم تمزيقها وتوزيعها بين العطايا والاستثمارات غير المجدية، ولا توجد في مدنه حدائق وساحات عامة بالمعنى الحقيقي، كما هي الحال في البلاد الأخرى.
(الغد)