قراءة شرق أوسطية لنص خطاب أوباما: هكذا "تنسحب" القوة العظمى
جهاد الزين
04-02-2014 03:59 PM
هنا محاولة للاستدلال من قراءة و"تفكيك" نص خطاب الرئيس باراك أوباما "حال الاتحاد"على نوع "الانسحاب" الأميركي من الشرق الأوسط.
نص خطاب "حال الاتحاد" الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام هيئتي الكونغرس وضيوف أميركيّين مُختارين يوم الثلثاء في 28 كانون الثاني هو خطاب "أوبامي" بامتياز من حيث شخصيّةُ الخطاب الخاصةُ في كثافة اختيار أمثلة من الحياة العادية الأميركية الآتية في سياق تركيزه المدهش تقليديا على عمق انتمائه للطبقة الوسطى الأميركية وعلى مواكبة تعداد الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية ولاسيما الصحية بعدم تجاهله حقيقة استمرار اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء داخل الولايات المتحدة ودعوته إلى رفع الحد الأدنى للأجور.
لستُ هنا في مجال دراسة بنية الخطاب في العديد من توجّهاته الداخلية التي لا أملك المتابعة المعلوماتية المهيّأَة لتقييم أبعادها. ولكني كمراقب من العالم العربي والشرق الأوسط طرحتُ السؤال الصعب والخطير النتائج علينا هنا في هذه المنطقة: هل يمكن الاستدلال من النص الكامل لهذا الخطاب على وجود "انسحاب" أميركي من المنطقة كما يكثر الحديث عن ذلك وأي نوع من "الانسحاب" هو؟ أضع كلمة "انسحاب" دائما بين هلالين لأنه من الأساس لا تنسحب القوة العظمى من أي منطقة في العالم انسحابا كاملا فكيف في منطقة الشرق الأوسط؟
دعونا إذن ندخل إلى النص:
هناك الدلائل غير المباشرة على تغيير عميق في السياسة الأميركية كما الدلائل المباشرة.
في غير المباشرة (بالنسبة لنا في المنطقة) طريقة أوباما في مقدّمات الخطاب في التحدّث عن الصين وشرق آسيا.
يقول: "أميركا هي (اليوم) مكان الاستثمارات الأول في العالم لا الصين".
و يستخدم تعبير: "الشراكة التجارية الجديدة مع الصين وأوروبا وآسيا المحيط الباسيفيكي".
ويقول: "سنفتح أسواقاً جديدة لبضائع جديدة تحمل طبعة صُنِع في أميركا". "الصين وأوروبا لا تقفان (تتفرّجان) على الخطوط الجانبيّة ولا نحن يجب أن نقف".
وينتقل إلى عنوان آخر شديد الأهمية هو "الاستقلال الأميركي في الطاقة" (Energy independence) فيقول: "أميركا ستواصل تعويد نفسها (فَطْم نفسها) على الحد من الاعتمادعلى النفط الخارجي". ويضيف: "كلما أنتجنا نفطا في بلادنا أكثر ممّا نشتري من بقيّة العالم" سنتقدم في هذا الاستقلال ويشدّد أن "المستوى الحالي (من الاعتماد على أنفسنا) هو الأوّل الذي يحصل منذ عشرين عاماً تقريباً".
ويقول:"أميركا هي اليوم قريبة من الاستقلال في الطاقة أكثر ممّا كنا خلال عقود".
ويقول: "هذا الكونغرس يستطيع المساعدة بدفع الناس للعمل على بناء محطات طاقة تستطيع أن تنقل السيارات والآليات من النفط الخارجي إلى الغاز الطبيعي".
ويقول: "ليس فقط إنتاج النفط والغاز (في أميركا) هو المزدهر بل أصبحنا في موقع قيادي عالمي في الطاقة الشمسية" ويضيف: "كل أربعة دقائق بيت أو مكان عمل أميركي يعتمد الطاقة الشمسية".
ويقول: "نستطيع أن نستمر في خفض وارداتنا النفطية وما ندفعه على المِضخّات".
ويقول: "لقد تشاركنا مع رجال الأعمال وشركات البناء والمجتمعات المحليّة لأجل خفض الطاقة التي نستهلك".
يضع أوباما تخفيض الاعتماد على النفط في سياق هدفين متداخلين هما "طاقة أنظف" و"مصادر جديدة للطاقة" ويقصد بذلك مصادر غير تقليدية.
في الدلائل المباشرة:
يتباهى أوباما بإخراج كامل للقوّات الأميركية من العراق (180 ألفا خلال عهده). وبإخراج "أكثر من ستين ألفا من أفغانستان". وأن ما سيبقى من قوات هو لـِ"تدريب ومساعدة القوّات الأفغانيّة إذا وقّعت الحكومة الأفغانية على الاتفاقية الأمنيّة".
رغم أن الرئيس أوباما يؤكّد على أن الولايات المتحدة لن تتخلّى عن دورها في حال نشوء أخطار كبيرة إلا أنه كان حاسماً في إبلاغ الكونغرس بالحرف: "إنما لن أسمح بإرسال قوّاتنا لمواجهة أوضاع مؤذية إلا إذا كان ذلك ضروريا كما لن أسمح بتمريغ أبنائنا وبناتنا في وَحْلِ نزاعات مفتوحة الأمد (0pen – ended conflicts). وهو يصف بعض هذه النزاعات دون تسميتها بأنها "قد تغذّي في النهاية التطرّف".
ينتقل أوباما بعد ذلك بشكل واضح للكلام عن ما يسمّيه "ديبلوماسية قويّة ومبدئية" (من مبادئ) فيقول: "ديبلوماسية أميركية مدعومة بالتهديد بالقوّة هي التي أبعدتْ السلاح الكيميائي السوري" و "الديبلوماسية الأميركية المدعومة بالضغط (لاحظ القوّة لسوريا، الضغط لإيران) هي التي أوقفتْ تقدّمَ برنامج إيران النووي".
ويصل أوباما إلى صياغة موقف شديد الدلالة لم يحظَ باهتمامٍ كافٍ لدى المحلِّلين (من المنطقة على الأقل) حين يقول: "طالما أن جون إفْ كينيدي ورونالد ريغان استطاعا أن يفاوضا الاتحاد السوفياتي، إذن بالتأكيد أميركا واثقة من نفسها تستطيع التفاوض (اليوم) مع أعداء أقل قوّة من الاتحاد السوفياتي". لا يقصد هنا سوى إيران. وكم كلامه يمكن أن يكون "حمّالَ أوْجُهٍ" قياساً بما استطاع التفاوض السلمي والحروب بالواسطة أن يفعلوه في مصير الاتحاد السوفياتي الذي كان حتما وفعلا أقوى وأكبر من إيران.
على أن الموقف الحاسم الذي استأثر وعن حق بالاهتمام الكبير في الشقِّ الخارجي من خطابه هو قوله للكونغرس دون مواربة: "إنما دعوني أكن واضحاً. لو أن هذا الكونغرس أرسل لي مشروع عقوبات جديدة ( على إيران) تؤدّي إلى الخروج من سكة المحادثات (مع إيران) سأضع فيتو على هذه العقوبات". الرجل وإدارته مصمِّمان على خط التفاوض السلمي مع إيران وقد أعقب كلامَه ببضعة أيام تسليمُ واشنطن لطهران الدفعة الأولى من اموالها المجمّدة وهي خمسماية وخمسون مليون دولار.
أيضا وفي أواخر الخطاب قال أوباما: "سنستمر بالتركيز على آسيا المحيط الباسيفيكي" و"دعم حلفائنا فيها" وهذه الأخيرة جملة تحمل بعدا سلبيا حيال الصين بسبب العديد من الخلافات الجيوبوليتيكية بين الصين وجيرانها في تلك المنطقة.
ماذا يعني كل هذا الكلام الرئاسي الأميركي:
يعني أن تحوّلاتٍ استراتيجيةً في نظرة أميركا إلى النفط ودوره في العالم تحصل. ويعني أن العقل الاقتصادي الأميركي الاستراتيجي هو في أوروبا والأهم في الصين وشرق آسيا الباسيفيكي.
كل هذا يتطلّب تغييرا حتميا في سياسة الشرق الأوسط الأميركية. الثابت الوحيد المعلن هو تأكيد أوباما الطبيعي في خطابه على الالتزام بأمن إسرائيل.
لكن هذا كله يعني أننا سنشهد ونشهد تغييراتٍ عميقةً بما يمكن أن نصفه "الانسحاب غير الانسحابي" من الشرق الأوسط. فالقوة العظمى تغيِّرأساليبها وأولويّاتها.
وقد ينضح من الخطاب احتمال بناء تفاهمات تجعل السياسة الأميركية معتمدةً على أدوار القوى الإقليمية الشرق أوسطيّة العربية وغير العربية التي قد تنضم إلى ناديها "الشرعي" بشكلٍ بارز دولةٌ مثل إيران مع الملاحَظِ أنه لم يأتِ على ذكر السعوديّة ومصر وخصّص بضعة أسطر لتأكيد التزامه بدعم سلام يقوم بين دولة فلسطينية وإسرائيل كدولة يهودية.
أخيرا وللتذكير المفيد سمّى أوباما "الإرهاب" العدو الأساسي وحدّد مراكز انتشار "تنظيم القاعدة" و"إرهابيّين آخرين" حصرا في: اليمن، الصومال، العراق، ومالي ثم رفع شعار "دعم المعارضة السورية التي ترفض شبكات الإرهاب".وهو لم ينسَ أن يذكر "حزب الله" باعتباره "يهدِّد حلفاءنا" إنما في سياق الحديث عن إيران وبالتالي بصيغة هامشيةٍ بشكلٍ ما قياسا بالحديث عن "القاعدة".
هنا الإلتزامات الأكثر غموضا (ومرونة) لأن "القاعدة" انتقلت إلى المرتبة الملتبسة التي تجعلها العدو المفضّل لواشنطن! فكيف في ما يحصل حاليا: انسحاب غير انسحابي!
هكذا يحدث تحوّلٌ عميق.
(النهار اللبنانبة)