من أكثر العبارات التي كنت وما أزال، أعبر عن عدم إعجابي بها، هي "المصالحة مع النفس". فلا اللغة ولا التفسير ولا الخيال، كان يسعف العبارة الشهيرة، والتي يستسهل معظم المتحدثين في شؤون عدة، اللجوء إليها، حين يتعلق الأمر ببند النصائح، خصوصا عندما تفقد البنود الأخري مكانتها، في حل أو تحليل قضية فشل يمر بها الإنسان.
لم أفهم أبدا كيف لشخص، يقف في خانة عمرية أو تعليمية أو خبراتية، مختلفة في كل مرة، عليه أن يقبل بالواقع وأنه غير متصالح مع نفسه، لذلك ففرصه في الحياة المهنية والاجتماعية والمادية ككل، ضعيفة. فلا خلل في النظام التعليمي أو الاجتماعي، ولا ظلم عابرا للفرص السانحة، يوقف أولئك المحللين "بألواح الشرح الجاهزة، وأسماء الدورات غير المفهومة، واستراحات القهوة المتكررة"، عند حدهم!
فعلى الرغم من الأهمية التي يضطلع بها بعض المدربين والمتخصصين، في مجال التنمية البشرية، وإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي، إنما وعلى كثرة تلك الدورات التي صارت تملأ الصفحات والمؤسسات والنوادي، وخلط الحابل بالنابل، ما بين مختص بتلك الشؤون، ومهتم بها يطمح أن يكون مختصا، ومهتم آخر أعجبته اللعبة هكذا "لله في لله"، أصبح من الاستحالة بمكان، منح الثقة أو طرحها من قبل المتلقين، الراغبين بتطوير حياتهم، وأدواتهم في التعامل مع الآخر، في عالم يزداد ضيقا وإرهاقا وظلما.
لا يمكن الحكم بترو وعقلانية على أي مُسير دورة من أولئك، لأن المتلقي ببساطة شرب الدرس الأول الذي يلقي باللائمة عليه وعلى عدم مصالحته مع نفسه، فهو بالتالي من حيث المبدأ غير مهيأ لإطلاق الأحكام على أحد. على فكرة هذا الحديث ليس متخيلا، بل هو نتاج حوارات متكررة، شهدتها شخصيا، في استراحات القهوة إياها، دارت بين جمهور يأسف على نفسه، لأنه اكتشف متأخرا، أنه غير متصالح مع نفسه، لذلك فهو فاشل!
الأمر وإن بدا أنه غير متعمد، لكنه بمنتهى الخطورة والحساسية. فحين يصبح المرء المسؤول الوحيد عن فشل التجربة، ويبدأ بجلد ذاته التي لا تريد أن "تتصالح مع نفسها" وتتقبل فكرة الفشل، وتحيا بها كأي كائن طُفيلي، يعتاش على ما هو موجود ومتاح، أظن أن في المسألة.. مسألة!
هل من المطلوب مثلا أن يقبل الإنسان الأنظمة السائدة القائمة على الظلم والاحتكار، في توزيع فرص التنمية وتحسين أشكال العيش؟ هل من المنطقي أن تسود الأفكار تلك، والتي توحد الشخص مع أدواته وأفكاره وطموحاته ومشاكله، وتدعوه أن يقبل بالمتاح، ويبدأ بالتغيير من نفسه؟ وبالطبع التغيير الوحيد هو التقبل والانصياع لما هو واقع، حتى لو أن الواقع نفسه لا يقول ذات الشيء.
بالنسبة لي لا تكمن الخطورة في اعتماد مؤسسات الدولة تلك الجهات، التي تمارس هذه الأدوار السلبية، عندما تدعو الموظفين إلى الهدوء وإعادة قراءة المشهد من الخارج، والذي هو الاسم الآخر للخنوع. بل الخطورة تكمن في أن يذهب الشخص على قدميه، لتلك الجهات التي تريحه من عناء الإحساس بالظلم، وتتحدث بالنيابة عنه، له، بأنه لولاه ولولا سلبيته، لما وصل الأمر به إلى هذه الدرجة من الانحدار!
أعرف أن فكرة "المصالحة مع الذات" تجد صدى واسعا هذه الأيام، لكنني كنت أفهمهما "على عدم تقبلي للمفردات"، بأنها مواجهة النفس مع النفس، لمعرفة نواقصها وعيوبها، وبالتالي تحسين البناء الداخلي، لتنمية القدرات والطموحات معا، وليس للتدريب على تقبل الحياة كما هي، وايجاد منابع أخرى للسعادة والنجاح، بعيدا عن تلك التي لم ننجح بها، لأسباب لا علاقة لها غالبا بنا.
(الغد)