كثيرة تلك الصور المطموسة في مصر، ومتعددة تلك المشاهد غير الواضحة في المحروسة، ولا حصر لها تلك المعلومات المغلوطة عن أم الدنيا، كما يطلقون عليها. بعضهم يتعمد استفحال أمور كتلك علهم يحققون مصلحة أو فائدة، أو يمنعون عن منافسيهم أي ميزة، أو ربما هدفهم بالأساس تغييب الوعي، أو العبث بالواقع أو التأثير في المستقبل.
يتحدثون في مصر عن الرئيس الذي يستطيع أن «يلم شمل» المصريين مرة أخرى، ويشيرون إلى انقسامات سياسية وأخرى مجتمعية نشأت بفعل إبعاد «الإخوان» عن السلطة وعزل الدكتور مرسي عن المقعد الرئاسي، ويروج بعضهم لأن مجيء المشير عبد الفتاح السيسي رئيساً سيكرس الانقسام، على أساس أن هناك معارضين له، أو أن مجيء الفريق سامي عنان مثلاً سيخفف من حدته، على أساس أنه من المؤسسة العسكرية، وفي الوقت نفسه له علاقات طيبة بـ «الإخوان»!.
هناك اعتقاد لدى بعض الدوائر الخارجية بأن في مصر انقساماً، ويصدق بعضهم تلك المقولة بفعل ما تلوكه ألسنة بعض النشطاء من رواد برامج الفضائيات الذين أدمنوا الكلام، واستفادوا منه، منذ انطلاق الثورة المصرية في كانون الثاني (يناير) 2011. وبطبيعة الحال فإن كلام النشطاء وتنظيرهم في البرامج حينما يمتزج مع مشاهد العنف الدموي الذي يرتكبه «الإخوان» في الشوارع والميادين والجامعات يجعل هؤلاء الذين يسمعون أو يقرأون عن الانقسام يصدقون. وتشغل المصريين أخبار التفجيرات التي تحدث على فترات متقاربة في القاهرة أو بقية المحافظات، سواء كان التفجير ضخماً كما حدث في سيناء، أو أمام موكب وزير الداخلية أو مديريتي الأمن في الدقهلية والقاهرة، أو محدوداً بفعل عبوات ناسفة بدائية الصنع، كما حدث عشرات المرات في مدن ومناطق مختلفة. في بلد كمصر يعيش فيه نحو 90 مليون مواطن على شريط ضيق يمتد من الجنوب إلى الشمال، وبعض المدن القليلة المتناثرة بعيداً منه، فإن ألف شخص قادرون على إرباك الحياة في محافظة كاملة إذا قطعوا طريقاً، أو سدوا نفقاً، أو عطلوا جسراً، أو احتشدوا في شارع، أو على أطراف ميدان.
في بلد يعاني العشوائية قبل الثورة وبعدها فإن في قدرة نصف هذا العدد وقف حال الملايين الآخرين إذا خرجوا من أسوار جامعة وقذفوا السيارات المارة بالمولوتوف أو الحجارة، أو رشقوا الشرطة بالزجاجات الحارقة. باختصار، لا يوجد في مصر انقسام بين فئات الشعب وإنما هناك جماعة لها أنصار من الإسلاميين الراديكاليين يحاولون إفشال أي حكم غير حكمهم، حتى إذا وصل الحال بهم أن يهدموا البلد على من فيه لأن ذلك أفضل لهم كثيراً، كما يعتقدون، من أن تثبت جهة محايدة أن الإسلاميين فشلوا في الحكم لسنة كاملة عانت فيها مصر انقسامات وليس انقساماً واحداً.
مهمة الرئيس المقبل تفعيل الدستور والقانون وليس «الطبطبة» على الخارجين عن النظام العام ومرتكبي حوادث العنف والقتل أو التحريض عليهما. في سبيله لتحقيق ذلك ليس عليه أن يمنح الخارجين على القانون مكافآت على عنفهم أو جوائز على تراجعهم، إذا تراجعوا، وإنما ألا يطبق القانون بمعايير مزدوجة أو متعددة. على الرئيس المقبل في مصر أن يعمل لمصلحة مجتمع بأكمله، بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية وفئاته العمرية وشرائحه الاجتماعية ومستوياته العلمية والثقافية. عليه أن يحترم أفكار ورؤى المعارضين له، إذا كانت لا تخالف الدستور والقانون طبعاً، لكن ليس شرطاً عليه أن يتبناها أو يؤيدها أو يخضع لها. الخلاف السياسي لا يعني انقساماً مجتمعياً، وما يحدث من «الإخوان» في مصر ومن داعميهم في الخارج حالياً ليس خلافاً سياسياً أو حتى صراعاً فكرياً أو ثقافياً وإنما عنف وجرائم ودماء مطلوب من أي رئيس التصدي لها ومقاومتها والقضاء عليها.
أضاع «الإخوان» كل فرصة أتيحت لهم كي يكونوا ضمن «الشمل»، وأصروا على المضي في الطريق الذي اختاروه لأنفسهم دون الالتفات إلى أي مبادرة من أي طرف، إذ راهنوا على تعاطف شعبي فخسروا، ثم تدخل خارجي ففشلوا، ثم على إسقاط الدولة فهُزِموا. رئيس مصر المقبل سيحافظ على الشمل «ملموماً» إذا امتلك أدواته في إدارة مؤسسات الدولة، ونفذ برنامجاً لإصلاح المجتمع، وتحسين أحوال الناس بفتح مجالات الاستثمار، والقضاء على البطالة، وتحسين مستوى الخدمات، وإحداث ثورة في نظام التعليم، وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم لأبناء شعبه. أما الخارجون على القانون فلا مجال لينالوا المكافآت والجوائز عن إصرارهم على هدم الدولة، أو إحداث الانقسام في المجتمع، أو تحريض القوى الخارجية على بلدهم.
(الحياة اللندنية)