إسقاط مشروع كيري يبدأ من مخيم اليرموك
علاء الفزاع
03-02-2014 01:07 AM
دائماً ما يحجب غبار المعارك الرؤية، ويصرف الأنظار عن الأهداف التي يسعى إليها الخصم. وهكذا فإن من يضيع في التفاصيل ويفقد القدرة على متابعة تحركات خصمه وراء الغبار سيتفاجأ بما لم يحسب حسابه.
ففي الوقت الذي كان فيه جسد كيري متواجداً في جنيف أثناء المؤتمر الدولي حول الوضع في سوريا، كان ذهنه في مكان آخر، يحسب لكل الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة لإنجاز اتفاق يصفه بالتاريخي بين الفلسطينيين و(الإسرائيليين).
جاء كيري إلى المنطقة مراراً. معدل زياراته تجاوز حتى معدل زيارات جورج شولتز في الثمانينات، ووارن كريستوفر في التسعينيات، وكلاهما كان لهما مشاريع واضحة في ما تعارفوا على تسميته بالشرق الأوسط، ولاحقاً مع خليفتهم كوندليزا رايس “الشرق الأوسط الجديد”.
تواتر زيارات كيري لا يترك مجالاً للشك في أنه يريد أن ينجز مشروع أوباما في الانسحاب من الشرق الأوسط، وهو الانسحاب الذي كشفت هيلاري كلينتون عن معالمه في مقالة شهيرة في العام 2011. هو انسحاب يقوم على تقليص الكلف لرفع العبء الكبير الذي يئن الاقتصاد الأمريكي تحته منذ أن انغمست امريكا في مغامرات عسكرية أكبر من قدرتها على التحمل، توجت بهزيمة عسكرية وسياسية وأخلاقية واضحة في العراق بعد احتلاله.
ولكن الإدارة الأمريكية لا تريده انسحاباً عشوائياً، ولا تريد ترك الفوضى وراءها، وخصوصاً فيما يتعلق بحليفتها الاستراتيجية (إسرائيل)، والتي وإن فقدت الكثير من قيمتها وتراجعت مكانتها لدى أمريكا والغرب إلا أنها ما تزال أثمن من أن تترك لمصيرها.
وهنا يأتي مشروع كيري. تأمين (إسرائيل) وفق الرؤية الأمريكية تمهيداً لتركها آمنة في المنطقة دون أن تستنزف الكثير من الجهد الأمريكي، ورغماً عن رغبة إدارة نتنياهو إلى حد ما، ولكن مع إعطاء الإسرائيليين مطلباً يكاد يوازي وعد بلفور: يهودية الدولة.
ما يطرحه كيري هذه المرة خبيث وذكي للغاية، ويختلف عن مشاريع من سبقوه، مع أنه يستكمل البناء على ما سبق. إنه يستغل الخراب الكبير في المنطقة من ناحية، ومن ناحية أخرى يطرح مدّ الخطوات على فسحة زمنية أكبر بكثير مما كان مطروحاً، ما يقلل من قوة المقاومة الشعبية التي أكتشفت أمريكا وإسرائيل أنها مقاومة أكبر من أن تتم هزيمتها. وتقول التسريبات أن تلك الفسحة الزمنية تمتد 10 سنوات، تتضمن إنفاقاً يصل إلى 25-30 ملياراً حسبما تتناقل أوساط أمريكية قريبة من صنع القرار، يتم تعويض اللاجئين مباشرة عن طريقها، فيما يتم منح الحكومة الأردنية 4 مليارات، وهو (أي مبلغ المليارات الأربعة) ما تحاول الجهات الرسمية الأردنية زيادته قدر المستطاع. وتتضمن خطة كيري مجموعة من الإجراءات التراكمية، والتي تؤدي في النهاية إلى إيقاف رعاية الأونروا للاجئين بعد 10 سنوات، أي فقدانهم صفة اللاجئين.
وتعتمد خطة كيري على تخيير الفلسطينيين بين اللجوء إلى دولة ثالثة (وتطرح هنا استراليا وكندا ضمن الطروحات القديمة المتجددة)، وبين البقاء في الدولة الفلسطينية التي ستقام على حدود 67 تقريباً مع تبادل للأراضي، وبين البقاء في الأردن بالنسبة للاجئين المتواجدين في الأردن وبعض الفلسطينيين المتواجدين خارج فلسطين وخارج الأردن، ومن داخل الخط الأخضر.
ولكن ولظروف واقعية كثيرة فإن المشروع سيكون أسهل بكثير إن تم تنفيذ الحلم الصهيوني القديم بتحويل الأردن إلى دولة فلسطينية، أو دولة ذات غالبية من المواطنين من أصل فلسطيني.
حتى لا نضيع البوصلة، الخطر على الأردن هو من مطلب يهودية (إسرائيل)، والوطن البديل والتهجير والجنيس كلها نتائج وعلل ناتجة عن المرض الأصلي: الاحتلال وقيام الكيان الصهيوني، وليس الخطر على الأردن من الفلسطينيين أو من الأردنيين من أصل فلسطيني، فهؤلاء شركاء الأردن في تعرضهم لمخاطر الكيان الصهيوني، ناهيك عن العوامل المشتركة العروبية والجغرافية والتراثية والتاريخية وغيرها.
وحتى لا نضيع البوصلة كذلك فإن رفض تجنيس الفلسطينيين في الأردن يعني بنفس المقدار رفض ترحيلهم إلى أي مكان في العالم خارج أرضهم. فالفلسطينيون المقيمون خارج فلسطين ينبغي أن يتحركوا باتجاه فلسطين، لا باتجاه استراليا وكندا والأنبار، ولا بأي مكان يتم دراسته سراً او علناً. ورفض خطة كيري ينبغي أن يكون عميقاً وجذرياً ويتوجه إلى أصل المشكلة، ولا يكتفي فقط برفض تجنيس الفلسطينيين في الأردن.
وهكذا فإن الوقوف الحازم في وجه أية منافذ قانونية تسمح بوجه تهجير الفلسطينيين إلى الأردن هو شيء أساسي، ويشمل ذلك الرفض الصريح وغير الوجل لمطالب تجنيس أبناء الأردنيات مهما بدت المطالبات إنسانية، فمعنى تحقق ذلك المطلب هو فتح الباب أمام رحيل مئات آلاف الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن.
هذا الوقوف الحازم شيء أساسي ولكنه غير كاف. فرفض الوطن البديل لا يعني رفض الفلسطينيين، ولكنه يعني رفض إبعادهم عن أرضهم إلى أي مكان. وبالتالي فإن الرفض القوي لتجنيس أبناء الأردنيات ينبغي أن يرافقه تأييد وحماس لمنحهم حقوقاً معيشية تخرجهم من الضنك الشديد الذي يعيشون فيه.
وقوننة فك الارتباط هو مطلب أساسي وكلاسيكي للحركة الوطنية الأردنية يكتسب اليوم راهنية لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن الحديث بجدية عن رفض خطة كيري دون التطرق إلى فك الارتباط قوننة ودسترة، مع دراسة تبعات الدسترة بشكل أكبر، ما يوقف ازدواجية الجنسية بين الأردنيين والفلسطينيين، دون المساس بوضع الأردنيين من أصل فلسطيني.
قوننة فك الارتباط التي تمت شيطنتها تعني فعلياً إقفال صندوق باندورا التجنيسي التوطيني، وإبقاء الجنسية الأردنية على من هم شرق نهر الأردن من أي أصل كانوا، وإبقاء الجنسية الفلسطينية على من هم غرب النهر. وينبغي أن نلاحظ أن الهجوم الرئيس على مطلب قوننة فك الارتباط يأتي من تيار متصهين استسلم تماماً للإراردة الصهيونية وبدأ العمل منذ عقدين من الزمن على زيادة (النفوذ لدى اطراف) في الأردن، وعلى محاولة زيادة أعداد الفلسطينيين في الأردن بمختلف الحجج التي تتستر بالمطالب الإنسانية العامة، وبالاتفاقيات الدولية.
ولكن وحتى تكتمل الصورة فلنتذكر هنا أن أعداداً كبيرة من الفلسطينيين المتواجدين على أرض الضفة الغربية يحملون الجنسية الأردنية، ويتمتعون بحق التواجد الفوري في الأردن، ويستطيعون ممارسة ذلك منذ الغد، ولكنهم يرفضون مغادرة الضفة، ويصممون على البقاء في وطنهم وأراضيهم. بعض المصادر تقدر هؤلاء بعشرات الآلاف، فيما تقدرهم مصادر أخرى بأكثر من ذلك بكثير. الأصل الواضح هو أن الفلسطينيين يرفضون مغادرة فلسطين، ولكنهم يتعرضون لمحاولات مستمرة وملحة ويومية لدفعهم إلى الخارج.
ما يتعرض له الفلسطينيون في فلسطين منذ هزيمة الانتفاضة في اجتياح 2002 هو تحطيم حقيقي للإرادة، وحصار شامل للضفة، وليس فقط غزة كما هو شائع، إضافة إلى المضايقات المتصاعدة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
المعاناة اليومية والمستمرة والساحقة تشبه مفعول قطرات الماء المتساقطة على صخرة؛ تترك فيها أثراً أكبر فأكبر مع مرور المزيد من الوقت. ومن يتوقع أن يصمد الفلسطينيون إلى الأبد فهو يطلب منهم شيئاً فوق قدرات البشر. وهكذا فإن مقاومة الأردن الحقيقية لمشاريع الترانسفير والتهجير والتوطين ينبغي أن تركز على تثبيت الفلسطينيين في أرضهم ومساعدتهم على الصمود أمام كل تلك الضغوط، وليس الاكتفاء بالإجراءات الإغلاقية، وهي مهمة ولا شك، ولكنها لا تحل أصل المشكلة.
اليوم وصلت (إسرائيل) مرحلة من الصلف أن وزير الخارجية (الإسرائيلي) ليبرمان يطلب أن يتضمن أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين أن يعترفوا بسيادة الإسرائيليين على الجولان. اليوم تعاني الدول العربية من ضعف بالغ يسمح بتمرير الاتفاقيات، وهو ما يسعى كيري إليه.
الانتباه ينبغي أن يتوجه بقوة إلى مكان آخر كذلك: مخيم اليرموك. من اصل 200 ألف فلسطيني كانوا يقيمون هناك لم يبق في المخيم اليوم سوى أقل من 20 ألف فلسطيني. وتقدر مصادر غير رسمية أن نصف فلسطينيي مخيم اليرموك غادروا سوريا إلى مصر وتركيا، فيما غادرت نسبة أقل إلى الأردن مع موجات اللاجئين السوريين التي عبرت الحدود. وما يزال أكثر من 100 ألف من فلسطينيي مخيم اليرموك متواجدين في بعض أحياء دمشق، وبالذات في قدسيا ومشروع دمّر، في اوضاع يرثى لها، كما يتواجد باقي فلسطينيي سوريا في مناطق مختلفة.
الوجهة المفضلة لترحيل هذه المجموعة - التي تمتلك حق العودة والتي يرغب المخططون في استغلال بؤسها لإجبارها على التخلي عن حق العودة- هي الأردن، إن عاجلاً أم آجلاً. وإن كان الموقف المتصلب للأجهزة الأردنية قد صمد أمام الضغوط للسماح لبعض فلسطينيي سوريا بالعبور إلى الأردن إلا أنه لن يستطيع الصمود أكثر في المستقبل، خصوصاً مع استمرار تردي الأوضاع على الأرض.
ورغم كل ما يقال عن حلول سياسية أو عن بسط السيطرة العسكرية في الميدان إلا أن الواقع يقول أن الأمور تنحدر أكثر فأكثر إلى الفوضى في سوريا. ما تبقى من مخيم اليرموك في مثل هذه الظروف هو هدف سهل. وفلسطينيو سوريا سيكونون مكشوفين أمام الأذرع الإسرائيلية والبنادق القابلة للاستئجار، وما أكثرها اليوم.
المبادرات الأردنية لهزيمة مشاريع التوطين والوطن البديل والوقوف في وجه أفكار كيري ينبغي أن تثير مسألة بذل جهود أردنية لإعادة الهدوء إلى مخيم اليرموك وإرجاع من تبقى من سكانه في سوريا إليه. إذا كانت المبادرات الأردنية تتبنى مفهوم الدفاع في أماكن متقدمة فعليها أن تفكر بطريقة لتثبيت الفلسطينيين ومساعدتهم حيث هم، بغض النظر عن المخرجات السياسية لمباحثات السلام والتي قد لا تكون واضحة الخطورة. السعي باتجاه مخيم اليرموك يعني أن الوطنية الأردنية إيجابية وليست سلبية، ويعني أنها تتحرك في مجالها الحيوي وليست محصورة في خنادقها. ويعني أنها ستتحرك في الضفة بنفس الطريقة الداعمة للكينونة الفلسطينية، لا بالطريقة التي يريدها كيري لنا: جاندرما. ويعني أنها تحافظ على هوية وطنها في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على شقيقتها التوأم الفلسطينية. ويعني أنها ليست عنصرية ولا ضيقة الأفق ولا شوفينية كما يحاول التوطينيون أن ينشروا ويذيعوا ويتلفزوا.
الأردن الرسمي كوّن علاقات لا بأس بها مع كافة أطراف الصراع السوري، بما فيها النظام السوري. الأردن الرسمي قدم للجميع خدمات في الساحة السورية، للجميع بلا استثناء، بأثمان متفاوتة طبعاً. تستطيع القوى الوطنية الأردنية الضغط على النظام لممارسة دور في مخيم اليرموك.
وبدلاً من أطروحات المنطقة العازلة في درعا والمرفوضة وطنياً من السوريين ومن الأردنيين يستطيع الأردن أن يطرح مطالب محددة تتعلق بالوضع في مخيم اليرموك، خصوصاً مع العبثية العسكرية وانعدام المعنى لما يجري في داخل ذلك المخيم البائس الذي ظلمه وقوعه بين طريق المطار من ناحية، ودمشق من ناحية أخرى، ومجاورته لحيي التضامن والحجر الأسود، وسمسرة فصائله على سكانه ولعبها على الحبلين ما بين النظام والمعارضة.
*صحفي وكاتب أردني مقيم في السويد