قضية الفساد الأخيرة التي كشفتها هيئة مكافحة الفساد حول التلاعب في امتحان الاختصاص أو الإقامة لعدد من الأطباء يجب أن لا تمر على الرأي العام بهذه البساطة؛ فلقد وصل منهج الإفساد إلى ضرب المجتمع في العمق وفي أكثر المجالات حساسية وخطورة، الكارثة ان هذه الانماط من الفساد ترتبط مباشرة بالمجتمع دون التقليل من مسؤولية المؤسسات العامة ودورها، فمنظومة الامتحانات والاختبارات الوطنية باتت مكشوفة ومخترقة بأشكال من التحايل والتلاعب والفساد الصغير والإفساد المنظم؛ من ظاهرة الغش تحت حماية الأسلحة والعصي والحناجر في التوجيهي إلى التحايل والفساد في امتحانات التوفل المحلية وصولا اليوم إلى الفساد والتلاعب في امتحان الاختصاص للأطباء.
الفساد الصغير أخطر وأكثر وحشية وفتكا من الفساد الكبير، فالأول هو نتاج اختلالات جوهرية في ثقافة الناس وفي إدراكهم للوسائل التي تحقق لهم المنافع والمصالح، وخطورته الفعلية في قوة الانتشار، في المقابل فإن اختلاس الملايين من المال العام قد يحاكم ويلاحق قانونيا، لكن الفساد الصغير الذي إذا ما تفشى يعني أنه لا يمكن أن تحاكم مجتمعا أو جيلا بأكمله وصل إلى يقينه تبرير الغش من أجل النجاح وتبرير الرشوة من أجل الوصول إلى المصلحة.
يحتل الأطباء مكانة رمزية لا تطالها مكانة المهن الأخرى؛ فأولئك هم من نضع حياتنا بين أيديهم، أغلى ما نملك ومصدر ذلك الثقة في هذه الفئة، فكيف إذا ضربت هذه الثقة في العمق، حينما يتورط 26 طبيبا في التلاعب في امتحانات الإقامة والاختصاص، ماذا يتبقى من تلك الثقة؟ وماذا نقول عن المهن الأخرى؟
أخبار الفساد الصغير تتدفق يوميا بشكل مخجل ولا تتوقف على منظومة الامتحانات، فالتحايل والتلاعب والابتزاز والاستقواء أصبحت مظاهر يومية تدور حولها الاخبار، خذ على سبيل المثال ( آخر أشكال الواسطة والمحسوبية في الوظائف العامة، الواسطة والمحسوبية في القبول الجامعي، الواسطة والمحسوبية في الترقيات، سرقة الكهرباء، الاعتداء على الخطوط الناقلة للمياه، الهدايا والإكراميات وكافة أشكال الرشوة حتى الحصول على سرير في مستشفى عام ..).
الفساد الصغير إذا ما انتشر في المجتمع فهو المصدر الأول لانهيار الدول وخرابها؛ تلك قصة تاريخية شواهدها كثيرة، آخرها ما يجري للجار الشمالي بكل أسف، فقد أثبت استطلاع رسمي سوري قبل سنوات قليلة أن أكثر من 98 % من السوريين يعتقدون أن الفساد منتشر وهو أساس العلاقة بين المؤسسات العامة والمواطن، فلا يستطيع المواطن تحقيق مصلحة دون أن يدفع "المعلوم" من الشرطي الى أستاذ الجامعة.
يقال إن الفساد الصغير ثقافة تبرر للناس وسائل غير مشروعة للوصول إلى مصالح يومية وحياتية، ولكنه قد يكون أيضا سياسة ممنهجة. السؤال: كيف يقاد المجتمع الأردني هذه الايام إلى الفساد؟ كيف يُفسَد؟ حينما تسترخي اليد التي تمسك القانون يصبح إفساد المجتمع ممنهجا وسياسة مقصودة.
(الغد)