قادتني صبيحة الجمعة الى وسط البلد،وقبل الصلاة بساعتين،جلت في أزقتها،الباعة،المشترون،الضجيج والصخب،وغياب المطر،ربما من كثرة التذمر في وجه الثلجة الاخيرة،ووجوه الناس المتعبة والمرهقة،كلها تراها خلال جولتك.
موعد صلاة الجمعة.هنا لاتجد مكاناً داخل المسجد الحسيني.تضطر ان تصلي في الشارع،قبالة المسجد،وفاعل خير يتبرع بكراتين من اجل ان يصلي عليها المئات،على اسفلت غير نظيف،متشقق،داسته عشرات الاف السيارات والاقدام خلال اسبوع.
خطبة قصيرة،عن الدنيا والاخرة،مواعظ شتى،والشمس الحارقة تتنزل على الرؤوس والوجوه،والشرطة تغلق الشارع الرئيسي عبر نقطتين،فتعرف انك امام مظاهرة او مسيرة بعد هذه الصلاة.
ينفض الجمع،وتنتهي الصلاة،وتبدأ السياسة،ناشطون معروفون،يحملون يافطات ويلقون خطابات على مسمع عدد من المصلين،من الكلام عن مديونية الداخل،وغياب العدالة،وتفشي المظالم،وصولا الى الخطر الذي يهدد الاردن وفلسطين،على خلفية مقترحات كيري،ومؤامرة التوطين.
الجمع يقوم بالتكبير،كلما سمع الايعاز بالتكبير،ُنكبّر معهم.لما لا.ففي هذا أجر وثواب،من حيث المبدأ،قبل السياسة وهمومها الثقيلة؟!.
اشفقت على المستمعين،فالعدد قليل،وعامة الناس في اوهن حالاتهم،فلا قدرة لهم على فرض اي تغيير،وانفاسهم متعبة،وهم يعرفون ان فلسطين ضاعت،وكل المنطقة قيد الضياع،والحيرة ترتسم على وجوههم،وكأنهم يقولون ان لاحول لهم ولاقوة.
الانفضاض عن المظاهرات سره يعود الى اليأس والملل،والقناعة بعدم جدوى كل هذه القصص،خصوصا،بعد الذي رأيناه في مصر وسورية واليمن وليبيا وغيرها من دول عربية مبتلاة،دون ان ينفي هذا ايمانهم بالعناوين السياسية المطروحة،غير ان تعب الناس لايطعن في صدقية المتظاهرين،ولايمس نياتهم.
ضباط الشرطة يستمعون مثل غيرهم،يتعاملون بلطف بالغ مع الخطباء،وغيرهم،يفتحون الطريق للسيارات بعد وقت قصير،ويرجون المستمعين ان يفتحوا الطريق للسيارات،فيستجيب هؤلاء،فلا..حقد ولا دم في الاجواء بين الطرفين.
ما يقوله المعارضون ليس كلاماً فارغاً،فالكلام مهم،وليلة الخميس يكشف مارتن انديك المبعوث الامريكي الخاص لعملية السلام تفاصيل عن اتفاقية كيري امام قيادات يهودية،فيقول ان لا..حق عودة للفلسطينيين،وان هناك منطقة عازلة بين الضفة الغربية والاردن،والتعويضات ستشمل الفلسطينيين واليهود ايضا الذين غادروا دولا عربية!.
هل يفرط بحق العودة،الذي يعيش في مخيم بائس في لبنان او سورية او بلا وثائق في مصر،او اي انسان فيه عروبة ودين،بالطبع لا.غير ان حق العودة هنا،ليس مجرد قرار شخصي،فالعالم كله يمنع الفلسطيني من العودة ويتآمر عليه كي لايعود الى فلسطين،وهذا يعني ان علينا ان نفرق بين مؤامرات السياسيين،وماتقدرعليه الغالبية الشعبية؟!.
كل ما اخشاه ان يتم نقل الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين،الى صراع بين الفلسطينيين وجوارهم العربي،لان جوارهم العربي يريد منهم موقفاً حازماً ضد كيري وخططه،وهذا الجوار يعتقد للاسف ان الفلسطيني باع فلسطين،ولايريد العودة،وهكذا فإن مطارق الغضب،لاتتنزل على الاسرائيلي وحده،بل تتنزل على الفلسطيني باعتباره ساكتاً غير معترض!.
هذه كارثة كبرى لو حدثت،لان الصراع بهذه الطريقة ينتقل الى التوقيت والمكان والناس الخطأ،وكل التعبيرات الوطنية في الاردن وفلسطين تتشابه،فلا تفريط بحق العودة،ولابحقوق الاردنيين والفلسطينيين،غير ان علينا ان ُنفرّق بين مايفعله الساسة،وماتقبله عامة الناس،حتى لاتدفع العامة،ثمن افعال السياسيين،وبالنيابة عنهم.
انهى الجمع خطاباتهم،ووجوه المستمعين تعرف ان كل كلامهم لاخلاف عليه،غير انهم ينطقون بقلوبهم قائلين،العين بصيرة واليد قصيرة،فيغادر الجمع الكريم،ويسترد وسط البلد كآبته الاعتيادية،لولا هذا الحدث القصير.
يعود الباعة الى شغلهم.بائع الخواتم العراقي يصيح بأعلى صوته،منادياً على خواتمه الكربلائية امام ساحة الحسيني،بعد ان غادر البصرة منذ سنين طويلة،ولايقدر على العودة اليها.سوري يبيع الحلوى.مصري يصب السوس البارد.سائحة اجنبية تصور مشهدا في قاع مدينة عربية.خادمتان من الفلبين تتسكعان بحثا عن ملابس قديمة.وطالب شريعة من اندونيسيا يبحث عن صيدلية.
تغادر المدينة القديمة،والعناوين في سمائها مازالت ُمعلقة،فيما الصلاة فيها لاتخلو من سياسة.
(الدستور)