لا يختلف اثنان، أن محاولات واتفاقيات السلام التي أبرمت بين دول عربية وإسرائيل، وأن التواجد أو التمثيل الاقتصادي الإسرائيلي في عواصم عربية عديدة لم يفلح في تغيير حالة الرفض الفطري لدى عموم المجتمعات العربية وفي كافة شرائحها لما اصطلح عليه بالتطبيع..
بل لعلها زادت من صلابة إرادة الملايين من العرب للتشبث بفكرة السلام العادل القائم على استعادة الأرض والحق والكرامة وعدم التفريط بشرفها، مع الإبقاء على حالة من العزوف تجاه العمل أو التعاون مع الإسرائيلي، أو استقبال منتجه في الأسواق العربية أو حتى تبادل المبادرات الفكرية والثقافية.. بل لعل عبارة (التطبيع الثقافي) تحمل في طياتها جهلاً وخداعاً مُبطناً.. فكيف تجمع الثقافة مع التطبيع بذات الفكرة فيما الأولى عكس الثانية كأن نقول "تبييض الأسود"..؟!
وسط هذه الأجواء ما فتأت جهات تحتكر الحقيقة أو هكذا اعتَقَدَتْ.. توزع اتهاماتها كيفما اتفق وعلى هوا مصالحها ومشاريعها السياسية لتشير لهذه الجهة بالتطبيع أو تتهم جهة أخرى بالدخول بمشاريع تطبيعية..
قبل عام بالضبط كان شاب فلسطيني مُبدع يقارع عدة جهات إسرائيلية ودولية تحاول الإيقاع بفيلمه (خمس كاميرات مكسورة) المرشح لجائزة الأوسكار، الشاب عماد برناط من قرية بلعين المحتلة، سجل مشاعرَ حية لفلسطينيين خسروا أراضيهم وأرواحهم بسبب الجدار العازل.. فواجه ضغطاً هائلاً من حكومة نتيناهو وأخرى من الحكومة الأميركية وإدارة الجائزة بل اُحتجزَ وعائلته لساعات طويلة في مطار لوس انجلوس بداعي "فلسطينيته".
خرج برناط ومساعده الإسرائيلي المتضامن مع القضايا الفلسطينية جاي ديفيد من الأوسكار بمؤامرة إسرائيلية أميركية..كيف إذن يمكن أن يوصف عرض الفيلم بهدف ايصال رسالته للشباب، بأنه تطبيع مع إسرائيل..؟!
حقيقة الأمر أن (خمس كاميرات مكسورة) تصدى لإرادة راهن الإسرائيليون على كسرها، لكنها صمدت بعزيمة وصبر وإيمان، لا بالبيانات والصكوك التي تتهم وتُبرئ كيفما اتفق، وهنا الإشارة للعرض الخاص للفيلم في عمان الذي حقق مشاهدة واسعة بين الشباب الأردني الواعي والمدرك لحقيقة الصراع، وأبعاد المؤامرة، بدعوة من منتدى بيت المقدس الذي وُجد كمحفل عربي يدعم الصمود الفلسطيني وعروبة "الاقصى" والذي هو قاب قوسين أو أدنى من المؤامرة الكبرى ضده ..
إن عرض الفيلم بعمان بتنظيم المنتدى وبمساعدة مؤسسة التعاون للشباب، يؤكد عمق الرؤية التي تنضوي عليها أعمال مؤسسات سبقت بمراحل عمل حكومات ودول بما يصب بمصلحة أهلنا في القدس، وإذ ندرك كما يفعل ملايين العرب أن أي فعل أو مظهر تطبيعي يجب أن يصب في مصلحة إسرائيل المباشرة فإن عرض (خمس كاميرات مكسورة) رغم أنف من تآمروا عليه في تل أبيب وهوليوود هو في صميم العمل المضاد لمصلحة إسرائيل..
أما ما يشاع عن أن إشراك مساعد مخرج إسرائيلي في الفيلم هو أحد مظاهر التطبيع فيكفي الإشارة إلى حجم الاستياء الواسع، الذي عبرت عنه الصحافة الإسرائيلية لانضمام جاي ديفيد بمواقفه المعروفة المتضامنة مع الفلسطينيين لطاقم الفيلم دون النظر لأي حسابات لحكومته وسياستها العدائية..
ولعلنا لن ننسى مواقف مخرجين ومثقفين إسرائيليين وغربيين عبروا عن تضامنهم مع الحق العربي والفلسطينيين في جملة أفلام وأعمال ثقافية، مثلت اختراقاً هز المواقف الرسمية الداعمة لإسرائيل وممارستها من قبل حكومات هؤلاء المبدعين مثل اليوناني كوستا غافراس والسويسري- الفرنسي جان لوك غودار.
(الغد)