العسكر والغطاء الديموقراطي
د.رحيل الغرايبة
30-01-2014 03:01 AM
ليس معقولاً أن تتحول أمنيات العرب إلى أمل استنساخ تجربة الحكم قبل ستين عاماً، وأن تؤول كل التضحيات والجهود والنضالات الشعبية نحو الحرية إلى مجرد غطاء شكلي خادع، أو البحث عن مسوغ يصبغ الشرعية على المستبدين أنفسهم ويحوّلهم من رجال انقلابات، وحكام متسلطين، عبر مسرحيات وتمثيليات انتخابية وصناديق تحملها الدبابات والمجنزرات المدرعة !!
ليس معقولاً أن يخلع المشير بزّته العسكرية مساء اليوم، ليصبح في صباح الغد حاكماً مدنياً منتخباً، يقبض على الشعب، بالحرية والديموقراطية والكرامة والإرادة الحرة، فهذا ليس إلّا هراء ومحض استخفاف بالعقل البشري، ويحمل كل معاني الإصرار على أن الشعوب العربية ما زالت تعيش في كهف مظلم رطب متعفن، لم يحظ برؤية شمس الحرية منذ ستين عاماً، وما زال يعيش المعركة الداخلية نفسها بشعاراتها وفصولها ومضمونها، وبطريقة الإخراج نفسها !!
إن الحكم العسكري عقلية ومنهج وتربية وحياة، فهؤلاء الذين كانوا قادة كتائب وفيالق، يستقبلون الأوامر العسكرية وينفذونها من خلال تحويلها إلى أوامر جزئية صارمة على من دونهم، ينظرون إلى من دونهم أنهم أفراد وأتباع ومجندين مهمتهم إتقان السماع وإتقان التلقي، وإتقان التنفيذ، سوف ينظرون إلى الشعب بالطريقة نفسها، فالشعب عبارة عن أفراد اصطفوا لسماع التوجيهات العلوّية، ووظيفتهم الإنصات بإصغاء، ومن ثم الإعجاب والتصفيق، ولا يملكون إلى كيل عبارات المديح والثناء على القائد الملهم، والزعيم الفذ، الذي ما عرف التاريخ له مثيلاً، ولن يجود الزمان بمثل قامته مستقبلاً.
ليس هذا تقليلاً من هذه المهمة ودورها، ولكن هناك فرق كبير وجوهري بين الحياة العسكرية والحياة المدنية السياسية، وهناك فرق كبير وجوهري بين التربية العسكرية وصياغة الجندي والقائد في الميدان، وبين التربية على إدارة العملية السياسية وإتقان قواعدها وإتقان فن التعامل مع القوى السياسية، والتربية على معاني الحرية والديموقراطية والشورى، والحكومات الحزبية ذات البرامج السياسية مما يؤدي إلى القول أن هناك فرقاً كبيراً وجوهرياً بين العقلية العسكرية والعقلية المدنية السياسية، وأن الديموقراطية ليست مجرد طلاء يحول الشخص من حالة إلى حالة، ومن هيئة إلى هيئة.
المتقاعدون العسكر، يمكن لهم أن ينخرطوا في مجتمعاتهم، ويمكن كذلك إعادة تأهيلهم في الحياة المدنية، ويمكن أن يتطور الأمر بهم لأن يصبحوا أعضاء فاعلين في الأحزاب السياسية، أفراداً مثل بقية الأفراد الذين تتاح لهم الفرصة لإعادة البدء في مشوار السياسية والحكم والإدارة المدنية من جديد، ويمكن كذلك الإستفادة من جنديتهم السابقة وتوظيفها في مسار التمكين المجتمعي العام، لكن هذا مختلف جداً ولا يحمل أي شكل من أشكال التشابه من الضابط الذي قاد انقلاباً عسكرياً، واستطاع السيطرة على الحكم عبر الدبابة والرشاش والمدفع، وسخر كل امكانيات الدولة المالية والإعلامية لتصويره على أنه الزعيم المنقذ، والمسيح المخلَّص والمهدي المنتظر، ثم يخلع بزته العسكريَّة والرتب والنياشين عن كتفيه ليخوض معركة صناديق الإنتخاب التي سوف تفرزه بنسبة 99% عبر استفتاء شعبي كاسح ونزيه يصل إلى حد الإجماع! ثم بعد ذلك يمكن أن يطلق عليه لقب النظام الديموقراطي المدني.
كل هذا في جانب، وفي جانب آخر يخرج أغلب أزلام المرحلة السابقة وكل كتابها وشعرائها وأدبائها وسياسيّيها ومنظريها الذين ما زالوا على قيد الحياة، ليتحدثوا مرة أخرى عن إعادة كتابة التاريخ من جديد، ويتحدثوا مرة أخرى عن مجد الخمسينيات والأحرف المضيئة لسجل الخلود، الذي أنعم على العرب بهزيمة(67)، وضياع سيناء وبقية الأرض المحتلة، لعل الأمة تنهض من جديد وتصنع مجداً جديداً يضاهي ذلك المجد ويزيد، فهؤلاء جريمتهم أكبر وأشد، لأنهم يكررون الجريمة، ويكررون الإصرار على خداع الأجيال المنكوبة مرة بعد مرة وما زالوا يتحدثون.
(الدستور)