اثنا عشر شهرا ، مرت على رحيلك ، يا ساجدة ، اثنا عشر شهرا ، كنت خلالها ما زلت اسمع صدى صوتك ، يتردد في مكالمتي الهاتفية ، معك ، قبل رحيلك ، وانا في زيارة الى دبي ، ولم اكن اعرف انها المكالمة الاخيرة.عدت يومها ، من المطار ، الى المستشفى ، كانت قد دخلت في غيبوبة ، حين دخلت غرفة العناية المركزة ، واطللت على وجهها ، الذي تعب احد عشر عاما ، هو عمرها الذي تحدت فيه المرض ، حدثتها ، فانفعل وجهها ، تحركت ملامحها البريئة ، وكأنها تسمعني ، على الرغم من غيبوبتها ، قلت لك.. احضرت لك الدراجة التي طلبتًها مني ، تحركت ملامحها ، وكأنها تسمع.. غير انها رحلت ، في مثل هذا اليوم ، قبل عام ، وبقيت هداياها التي جلبتها من دبي ، كما هي في زاوية ، من زوايا غرفتها ، تسأل عن صاحبة الهدايا ، فلا اجيب ، فأنا لا اعرف نفسي الجواب ، رحلت تلك الصبية الصغيرة بجديلتها الشقراء ، وتركت مسبحة العقيق التي اهديتها اياها ، ذات يوم في المستشفى ، وكلما ذهبت الى المستشفى ، اذهب واسأل قسم الامانات عن مسبحة العقيق ، وهل وجدوها ، في غرفتها بعد رحيلها ، فلا يجيبون ، وكأن ذات المسبحة ، ابت ان تعود الي ، فصاحبتها رحلت.
يوم الثاني عشر من شباط من العام الماضي ، كان يوما صعبا جدا ، فقد استيقظت مبكرا ، حتى اذهب وازورها في مشفاها ، حدقت النظر في قفص للعصافير عندي ، كانت الانثى في القفص قد اختفت ، دون سبب واضح ، بحثت عنها في كل ارجاء المنزل ، فلم اجدها ، انقبض صدري ، فكيف اختفت ولماذا ، وما هي الا ساعات ، حتى اختفت ابنتي ، واذا كان التطير حراما ، فان اختفاء الطير من القفص ، الذي قبض صدري بشدة ، صدقته الساعات اللاحقة برحيل طفلتي الصغيرة ، وفي يوم جنازتها ، سألت التي تريد تغسيلها ، عما تريد ، فقالت نريد تحنية العروس ، فهل تصدقون انني وجدت في بيتي كيس حناء احضرته من الحج قبل عامين ولم يتم استخدامه ، وكان متروكا بشكل غريب ، حتى صار نصيب الصبية الشقراء ، ذات الجديلة ، تلك التي سميت في مدرستها بأم عائشة تحببا من معلماتها ، وقلت دائما ان المفارقة انها لم تعش ، ورحلت ام عائشة.
لم اجد يوم دفنها شيئا لافعله ، سوى ان اسكب ماء زمزم في قبرها وامسح وجهها به ، وان اجعل جدها وجدتها وامها وشقيقها وشقيقتها ، اقوياء ، حتى هذه اللحظات حرمتني الدنيا ان ابكي عليها ، فعلي ان امسح دمع غيري ، واعود اليها كل جمعة ، اقف عند مرقدها ، واسلم عليها ، وقد اشعر مرات انها تضمني ، بكل قوة ، فلا احدث احدا عن هذا حتى لا يقال مسه الجنون ، من فرط الشوق لحبيب.
سمير الحياري ، سليم المعاني ، رفيقا السلاح في هذه المهنة ، فقدا ابنين لهما ، ويعرفان حجم الالم الذي يطل على قلبيهما ، هذا الالم الذي يجعل كل شيء لا قيمة له ، فالابن هو الحرف المتمم للابجدية ، وبغيابه ، تنقص حروف الابجدية ، ويبقى شعورك ، ان الزمن لا بد ان ينتهي ، وتلحق بذاك الذي رحل ، فتراه باذن الله ، يوما ما ، وتضمه حتى ترتوي عروقك العطشى ، فالابن والبنت حين يرحل احدهما وهو في عمر الورد ، تفقد معه قلبك.
مثل اليوم ، تركتني ساجدة ، روحها تسجد لربها ، وجبينها وضاء ، ويداها تمت تحنيتهما بحناء يمانية ، احني يديّ في مثل هذا اليوم ، احني قلبي ، واغفو ، بانتظار ، ان اضمها الى صدري ، واقبل عينيها الذكيتين ، وقد كنت اقبلها دوما في عينيها ، ولم اكن استمع الى ما تقوله النساء ، ان القبلة في العين علامة على الوداع ، فلم اصدقهن ، حتى ودعتني.
M.TAIR@ADDUSTOUR.COM