تـونـس تلهمـنـا مـــرة أخـــرى .. !
حسين الرواشدة
29-01-2014 02:29 AM
أشعر أننا مدينون لاخواننا التوانسة” بالشكر والاحترام مرتين: مرة لأنهم أطلقوا “مارد” الثورات العربية التي كسرت حواجز الخوف والوهم عند المواطن العربي من السلطة -أي سلطة-، ومرة أخرى لانهم قدموا أفضل نموذج ممكن لعملية سياسية تجاوزت عقبات “الانتقالية” وجمعت القوى الفاعلة -على اختلاف تياراتها- في عنوان واحد -عبر عنه رئيس الحكومة المستقيلة علي العريض- وهو “التوافق على الأدنى من الخير بدل التقاتل على الحد الأقصى منه”.
أمس الأول، نجح التونسيون في “التوقيع” على الدستور الجديد، وكان الرئيس المرزوقي صادقاً حين قال “اختارت بلادنا طريق الآلام الصعب لأنها كانت تعرف أن الشعوب هي من تصنع الديمقراطية وليس الحكومات”، ولم يكن ذلك لقيم لولا موقف حزب النهضة الإسلامي الذي حظي بأغلبية الأصوات في الانتخابات ثم تنازل طوعاً عن “الحكومة” لمصلحة انقاذ تونس من الانقسام، ولمنع تكرار السيناريو المصري، كما قال الغنوشي مؤخراً.
من حق الذين تعبوا من “مشاهد” الانقلابات والثورات التي تحولت إلى صراعات دموية أن “يحتفوا” بالحالة التونسية، لكن هذه الحالة لم تقفز إلينا من فراغ، وإنما جاءت من “أرضية” الحد الأدنى من “الاعتدال” الذي اتسمت به تونس، سواء من خلال ما لديها من تراث ديني أو سياسي، أو من خلال “وعي” قواها السياسي المبكر على ضرورة “التفاهم” حول الحكم والدولة، وهو ما تم قبل سقوط نظام ابن علي بعدة سنوات. لكن الأهم من ذلك هو موقف “الإسلاميين” بزعامة الغنوشي من الثورة وما ترتب عليها من استحقاقات جديدة، فقد تصرفوا بمنطق “الشراكة” لا بمنطق “الغلبة” والاستحواذ، واعتبروا أنفسهم “جزء” من الجماعة الوطنية لا “وصيّاً” على المجتمع، ونجحوا في اقناع خصومهم السياسيين “بحمل” المرحلة من خلال “ترويكا” جمعت مختلف القوى السياسية، وحين واجههم “الشارع” بالاحتجاجات لم ينجروا إلى “العنف” الذي كانت السلطة فيما مضى تمارسه ضدهم، وإنما “تركوا” للناس أن يمارسوا حريتهم، وتنازلوا عن كثير من مواقف، حتى فيما يتعلق بالنص في الدستور على أن الشريعة هي المصدر الأساسي للقانون.
يمكن للإنسان العربي الذي “تعب” من الاحتجاجات ويأس من سطوة الانقلابات وأوشك أن يفقد أمله في “التغيير”، ويمكن -أيضاً- للشعوب التي ما تزال تخرج لاسترداد حرياتها وحقوقها، وتتعرض في سبيل ذلك للقتل والسجن والطرد من “الملّة” الوطنية وتُلصق بها تهم الإرهاب، كما يمكن لكل المتشوقين إلى “الحرية” والعدالة أن يحدّقوا في صورة “تونس” الجديدة وأن يستلهموا من تجربتها مدداً للأمل والهمّة والإصرار على “نصاعة” ثوب الثورات وسلامة طريقها وحتمية انتصارها.
أعرف أن المشوار أمام اكتمال “الثورة” في تونس ما زال طويلاً، والتحديات أمامها ما تزال قائمة، لكن ما يطمئننا عليها، أنها شقت طريقها وتجاوزت عثراتها، واستندت إلى “الحكمة” في سيرورتها، ولم يكن ذلك ليحدث لولا التزام أغلبية “نخبها” وعقلائها بمنطق التصالح والتنازل، وانحياز جيشها لمهمته الأساسية بعيداً عن الانغماس في السياسة، وإصرار شعبها العظيم طي صفحة الماضي وعدم السماح “للانتقام” أن يكون عنواناً للمرحلة.
نريد أن نتعلم من التجربة التونسية كيف يكون “التوافق” حلاً لمشكلاتنا وكيف يكون “التنازل” علامة قوية لا ضعفا، وكيف نخسر حين ينتهي صراعنا على الحاضر أو الماضي إلى “تضييع” المستقبل، ونريد أن تدقق قوانا السياسية في هذا النموذج لتتعلم منه أيضاً كيف تتقدم مصلحة “الجماعة الوطنية” على مصالح الجماعات والأحزاب والتيارات، وكيف يلتقي العلماني مع الليبرالي مع الإسلامي على طاولة واحدة لتقدير الموقف وإقرار الأجندة بعيداً عن صراع “الملفات” الإقليمية وإغراءات “الاستحواذ” على السلطة.
ألهمتنا تونس حين اطلقت من سيدي بوزيد شرارة “الثورة” وها هي تلهمنا مرة أخرى حين تكتب دستورها.. وحين تنتصر على محاولات “الاجهاض” التي استهدفت كل بادرة “أمل” بالتغيير والنهضة في عالمنا العربي.
(الدستور)