تونس تفضل الكتابة بالحبر على الدم
سمير حجاوي
28-01-2014 11:09 PM
تونس صانعة للتاريخ العربي الحديث وهي بقعة ضوء ساطعة في ظلام العرب الدامس المدلهم، فبعد اطلاقها لشرارة الثورة العربية الحديثة من منطقة سيدي بوزيد التي تسكنها غالبية من "الغلابا" المسحوقين والمطحونين بالفقر والبطالة وشظف العيش، ها هي اليوم تصنع دستورا توافقيا يرضى عنه غالبية الناس من جميع الاطياف الفكرية والسياسية والدينية، مما يجعل من الدستور الجديد "عقدا اجتماعيا" للمجتمع والدولة في عملية تعيد تونس إلى الواجهة كرائدة وصانعة للنموذج العربي.
هذا العقد الاجتماعي التوافقي يرضي البعض ويغضب اخرين، لانه لا يلبي كل المطالب التي يريدها هذا الطرف او ذاك، فالبعض يريد الدستور اسلاميا يحكم بالشريعة والبعض الاخر يريدونه علمانيا يفصل الدين عن الدولة، لكن الدنيا في النهاية هي موازين قوى وتوافقات وصفقات ومساومات وتنازلات.
نجح التونسيون في التوافق على قواسم مشتركة لدستور يمكن اعتباره "نموذجا للتراضي" بدل اللجوء إلى الحرب والعنف والنزاع المسلح وشق المجتمع وصناعة حالة من التفتيت التي قد تؤدي إلى الغرق في الفوضى، ومن هنا طبق التونسيون المثل القائل " لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم" .. أي لا تحكم الشريعة الاسلامية وفي المقابل لا تتعلمن الدولة، وهي صيغة تضع المجتمع التونسي في الوسط وتترك الحرية لكل فرد لاختيار توجهه، وهذا بالضبط ما نص عليه الفصل السادس من الدستور الجديد الذي قال: "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.ويحجّر التّكفير و التّحريض على العنف".
وهي صيغة ارضت الاسلاميين والعلمانيين اللادينيين، ذهبت إلى حد اعتبار ما تم الاتفاق عليه "دستور ليبرالي"، خاصة مع تنازل الإسلاميين الذين يسيطرون على أغلب مقاعد المجلس التأسيسي عن اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، وهذا يحسب لحركة النهضة الاسلامية ورئيسها الشيخ الدكتور راشد الغنوشي، الذي عمد إلى تقديم تنازلات من اجل حقن الدماء والخروج من عنق الزجاجة وانهاء الازمة السياسية والحد من حالة الاستقطاب في المجتمع ووقف الانحدار نحو العنف والفوضى، وهو يعتمد بذلك على ضمانة ان الشعب التونسي سينحاز دائما إلى عروبته واسلامه ولن يتخلى عنهما مهما كانت الظروف.
الدستور الجديد نتيجة مرضية للثورة التونسية التي فجرها الشهيد محمد البوعزيزي، الذي احرق نفسه من اجل الحرية والكرامة والعدالة، وتحقيق انتصارا لإرادة الشعب التوافقية ودماء الشهداء والجرحى وعذابات المعتقلين الذين سامهم نظام زين العابدين بن علي سوء العذاب في سجونه الوحشية، وهي تقطع مع الظلم والفساد والحيف. وتؤسس ل "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.. دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون، كما جاء في الفصلين الاول والثاني اللذان لا يمكن تعديلهما، مع اقرار ان "الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، يمارسها بواسطة ممثليه المنتخبين أو عبر الاستفتاء. كما ان الدولة "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم. ويحجر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن. وان حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات، وتضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة، وتسعى إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال وحرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات مضمونة، كما تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة و تدعم مكاسبها و تعمل على تطويرها، وتسعى إلى تحقيق التّناصف بين المرأة و الرّجل في المجالس المنتخبة، وتتّخذ التّدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، على ان يكون قسم كل عضو في مجلس نواب الشعب "أقسم بالله العظيم أن أخدم الوطن بإخلاص، وأن ألتزم بأحكام الدستور وبالولاء التام لتونس".
لا احد من البشر يختلف على هذه القيم الانسانية المرموقة وهي تحقق مطالب الانسان الاساسية في الحرية والعدالة والعيش الكريم بعيدا عن الدكتاتورية والفساد والتعسف والظلم والاستبداد، وهي قيم تجعل من "دستور الثورة التونسية" مثالا يحتذى يمكن استنساخه في دول عربية اخرى تبحث شعوبها عن الحرية.
لا شك ان ان تونس لم تكن لتصل إلى هذا الدستور التوافقي بين مكونات المجتمع بدون وجود زعامات من طراز الرئيس المنصف المرزوقي، الذي قضى حياته في النضال من اجل حقوق الانسان، ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر الذي ادار عملية صعبة ومعقدة وراشد العنوشي الذي فضل الكتابة بالحبر على الكتابة بالدم وبالطبع قادة المعارضة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
يحق لتونس ان تحتفل ويحق لنسائها ان يزغردن ويحق للشعب التونسي الاحتفال بنهاية نظام بن علي الذي خرج التونسيون إلى الشوارع وهم يهتفون "الشعب يريد اسقاط النظام".. الان فقط سقط النظام الدكتاتوري في تونس وسقطت جمهورية الجنرال لتبدأ جمهورية الحرية التي صنعها الشعب التونسي العظيم.
hijjawis@yahoo.com