ها أنت ذا تقف الآن باكرا جدا على الطريق العام بالقرب من آخر مظلة باص في (الجديدة).. تنتظر حافلة مزدحمة تقلك إلى مدرسة القرية المجاورة .. تفرك أذنيك من البرد .. وتلعن الزكام والسعال والتبغ المغشوش.. وفي الجوف بقايا الخبز البائت والشاي الثقيل المدبس.. وفي النفس أحلام تبددت حول (تحويش المهر والتلبيسة وشيء من الذبائح) وتقلصت إلى حد قضاء فصل الشتاء بديون معقولة.. متى يأتي هذا الباص اللعين؟ سيكون مزدحما بطلبة الجامعة ومعلمي الثنية وأدر والمنشية.. ومريضات المشفى العسكري..
وكالعادة سأصل المدرسة واقفا مرة.. وجالسا مرة.. وواقعا أرضا أكثر من مرة؟ لا شيء سيتغير.. مدفأة المدرسة لا كاز فيها.. والطلاب مكشرون .. لم يعد يجدي معهم أي تهديد بخصم علامات ولا بإحضار ولي أمر.. أصبحوا علماء بقانون منع الضرب.. وبالحاجة الملحة للراتب.. يتكئون على ضعفنا وخوفنا .. اللهم اغننا عن هذه الوظيفة التي تقصر العمر.. تنفخ يديك وتفركهما.. أين أنت أيها الباص اللعين.. بالأمس أعلنوا عن رفع أسعار المحروقات.. لا بأس .. لقد تعودنا منذ العام الماضي على الرجوع إلى عصر المنقل.. في القرية زبل وقرامي شيح وبلّان وصناديق قديمة وأشياء أخرى يمكن إشعالها .. تنظر في الأفق فترى امتدادا أجرد.. تتذكر يوم كان هذا الامتداد مرتعا لطفولة صاخبة بالزهور والأعشاب البرية والفخاخ ..ولاهية عما سيجري في قابل الدهر.. اللعنة.. الباص لم يأت بعد .. فات موعده اليوم (أبصر وشي السيرة) تعود إلى سرحتك.. صديقي الذي في الخليج .. يا لدفء الخليج.. ولكن هذا العام المناخ كله مختلف .. قرأنا عن أشخاص ماتوا من البرد في دولة خليجية.. ما علينا.. صديقي الذي في الخليج جعل مني مضغة في أفواه القراء.. (ماله سيرة غيري) خميس بن جمعة فعل.. خميس قال.. خميس مات..عاش.. خميس خميس خميس..!! يا لهذا الخميس القادم كم هو مرعب.. يقولون إن منخفضا في الطريق إلينا سيصل الخميس.. من هذا الحراث الذي يمتطي التراكتور الأحمر؟
ليته يقف ليريحني من عناء الباص اللعين ..
التراكتور يتوقف.. أستاذ خميس .. اصعد .. (حظك حلو) أنت اليوم في طريقي وستصل المدرسة في الموعد .. يسير التراكتور ولا يسكت الحرّاث.. لا حراثة اليوم.. أنا ذاهب إلى القرية المجاورة لطحن شوال قمح.. لحسن حظك أن (بابور الطحين) بالقرب من مدرستك.. على ذكر الطحين.. ما هي السلع التي انخفض سعرها؟ أعني التي ليس عليها ضريبة مبيعات؟ عندي زبل للبيع بدون ضريبة.. وبقايا (غضة)*
يستمر سائق التراكتور في الثرثرة .. بينما تعود إلى سرحتك الطويلة.. ماذا جرى للباص؟ لعله وقع من فوق الجسر .. الجسر الذي تفسخ في الثلجة الأخيرة
...............
*الغضة: تبن العدس