كي لا نقع في حبائل الايدولوجيا العلمانية
سامر حيدر المجالي
11-02-2008 02:00 AM
ليست المشكلة التي هي موضع نقاشنا في هذا المقال هي الوقوع في حبائل العلمانية فحسب ، بل هي كذلك الوقوع في حبائل التعريفات المبتسرة والنظريات المفصولة عن سياقها ، ثم الانقياد إلى منهج إصلاحي ذي طابع تلفيقي يريد أن يقفز فوق المراحل ليدلي بشهادة تاريخية تفتقر إلى الشمول واستشراف المستقبل بحكمة وروية .العلمانية و الدين .. المدنس والمقدس .. الدنيوي والأخروي ، هذه المتقابلات التي يكثر تناولها في هذه الأيام وتخضع لتنظير المنظرين واجتهادهم ، هي أخطر ما قد يتناوله المرء بالتحليل والتمحيص لأنها وببساطة تلخص تاريخ البشرية كله ، منذ يوم ميلادها حتى يومنا هذا .
ومع رواج الأفكار الداعية إلى العلمانية التي يتم تسويقها فيما بيننا بشكل سطحي متهافت ، يتم اختزال البشرية كلها في نظرية واحدة ، يُستثنى منها تاريخها وعمرها المديد ومراحل بنائها وبلورتها وخروجها إلى الوجود في حلتها – أو حللها – التي نعرفها اليوم . البعد الزماني - المكاني مفقود تماما ، والعامل الفكري أو الابستمولوجي هو الغائب الأكبر . والسبب في ذلك بسيط ، فالوصفات معلبة وجاهزة ، والثقافة مدعاة ، والكلام يعبر عن حالة من الانبهار والاندهاش أكثر مما يعبر عن موقف علمي متين وموضوعية راسخة البنيان .
كيف يمكن الركون إلى تعريفات على شاكلة أن العلمانية تعني اللاديني ، أو فصل الدين عن الدولة ، أو الحياد إزاء الشعائر والمعتقدات ، أو فض الازدواج بين الانتماء الديني والانتماء السياسي ، أو الفصل بين المواطنة والمذهبية الدينية ، كيف يمكن الركون إلى هذه التعريفات وغيرها من المطروح في نظريات أصحاب العلب ، وهي في حقيقتها ليست إلا نتائج لصراع جرى ويجري لا على مستوى الحضارة الغربية فحسب ، بل على مستوى الوجود والعقل الإنساني بكل أطيافه .
هنا مكمن الخطورة الأكبر ، فالذين يَفْصِلون العلمانية كنظرية عن تاريخ الحضارة الغربية هم مخطئون تماما ، لكن الذين يفصلون العقل الغربي كله عن سياقه الإنساني هم أكثر وقوعا في الخطأ وأشد بعدا عن حقيقة الموضوع من أساسه .
وكي نوضح معنى الكلام نقول أن العقل الإنساني هو كل واحد ، لكنه غالبا ما كان يعبر عن نفسه ضمن نمطين من التفكير ، نمط غيبي ميتافيزيقي هو النمط العرفاني ، ونمط عقلاني واقعي هو النمط البرهاني . هذان الخطان المتوازيان اللذان لم يلتقيا بشكل فاعل ومؤثر ضمن تاريخ الحضارة الإنسانية إلا نادرا ، ولنتذكر كلمة نادرا هنا لأننا سنعود إليها مرة أخرى ، هذان النمطان حكما بشكل مطلق طريقة التعامل مع الأشياء من حولنا وصنع كل منهما وجها حضاريا خاصا به وضمن معطياته .
العرفان والبرهان ، أو بشكل أكثر وضوحا الشرق والغرب ، هما النمطان اللذان ما انفكا يبنيان الصرح الإنساني وينتجان المعارف والحضارة .
في الشرق حيث ألف ليلة وليلة وشهرزاد وبوذا وكونفوشيوس والمايا ، وحيث يحل براهمان وتزدهر نظريات الإشراق والفيض والتجلي ويكتسب العالم معنيين ، معنى ظاهريا وآخر باطنيا . في هذا وأشباهه مما لايعد ولا يحصى يكتسب الإنسان قيمة مركزية في سلم الخلق ، ويغدو وجوده الشخصي مرآة تعكس العالم بأسره ، فهو العالم والعالم هو . وتتسلسل مراحل الوجود بدء من الناموس الأعظم في رحلة فيضية جميلة تنبثق في النهاية عن معجزة وجودك أنت أيها الإنسان ، يا من خُلِقَ الكون بأسره من اجل خدمتك وسُخِّرَتْ إمكانياته في سبيل راحتك . الإنسان في هذا النوع من المعارف قطب استثنائي تتملكه مشاعر المحبة والعشق ، تغذيها نزعة عظمى من نزعات التكبر والإحساس بالقيمة الاستثنائية .
يقول داريوش شايغان في وصف الإنسان العرفاني : " إن الإنسان بوصفه همزة الوصل بين الأصل الأول والطبيعة الأخيرة ، تفيض منه الأنوار القادرة على أن ترتقي بالأشياء إلى نصابها الرمزي ، كما تنتهي إليه رحلة العودة الرامية إلى كشف ما بقي محتجبا تحت الظاهر المحسوس . وبفضل هذا التناغم بين كل من الجسم والنفس والروح ومماثلها الانطولوجي ، يتوفر الإنسان على ملجأ يجنبه التيه على ضفاف العالم المقفرة . ويساعده كونه القطب الذي تدور حوله أفلاك الوجود على أن يتماهى بفضل هذه المكانة الرمزية مع القوة الكونية التي تتخلل كيانه مثل رعشة مقدسة " . انتهى الاقتباس .
أما هناك على الضفة المقابلة فالأمر مختلف تماما ، فبدءا من الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو حيث العقل والمقدمات المنطقية للأشياء ، وصل الإنسان إلى اخطر مراحل تكوينه الفكري باستفاقته على صدمات هستيرية زلزلت بنيانه في هذا الوجود و زعزعت شعوره تجاه نفسه وجردته من كل مميزاته الاستثنائية ، فلا كوكبه الذي يعيش عليه هو مركز الكون ( كوبارنيكوس ) ، ولا أصله سماوي روحاني بل هو سلالة متحدرة من مخلوق أدنى درجة من القرود ( داروين ) ، ولا دوافعه وغرائزه ذات أصل روحاني بل هي مكنونات اللاشعور الجنسية والبدائية تطفو على سطح الشعور فتترجم أقواله وأفعاله وتفسر كل تصرفاته ( فرويد ) .
في هذا الجو الباعث على الإحباط ، غاب العالم غير الملموس ووصلت قيمة الإنسان إلى الحضيض فرغب بإزالة الأغلال السحرية عن هذا الوجود ، وبات تاريخه محض صراع ووسائل إنتاج ( ماركس ) وأعلن في نهاية المطاف عن موت الله ( نيتشه ) .
العلمانية هي ثمرة هذا المنهج البرهاني الذي لم يعد يقنع إلا بما يقع تحت الحواس وتثبته التجربة ، العلم هو كل شيء وما سوا ذاك فأمر محيد أو مغيب . وهي بذلك تفرض نفسها كايدولوجيا بديلة ، فتقيم وزنا لكل شيء إلا الدين وحاجات الإنسان الروحية . إنها موت الله ( سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ) .
فهل أخطر بعد ذلك من تبنيها في صيغتها النهائية بعد أن نضجت وأمضت في ثنايا العقل الغربي قرون متطاولة تنتظر لحظة البعث والميلاد ، خطورتها تكمن في أخذها ككل متكامل يشكل عقيدة لا تقبل القسمة على أثنين ، ثم التنظير لها في وسط غفلة تامة عن ما تحتويه من معان خافية وجذور الحادية .
والآن هل يعني الكلام السابق قبولا بما يفرضه العرفان من شطحات وإمعان في عالم الغيبيات ؟ وهل يعني كذلك رفض المنهج البرهاني كلا وتفصيلا ؟ الصورة ليست كذلك وما زال للكلام بقية مهمة .
هنا نميل إلى التقسيم الذي ذهب إليه محمد عابد الجابري ، وان كانت منطلقاتنا في هذا الكلام تختلف عن منطلقاته ، نميل إلى القول أن هناك منهجا ثالثا يقف في مرحلة وسط بين منهجي العرفان والبرهان ، والمقصود هو منهج البيان ، والذي اعتبره الجابري معبرا عن المعقول الديني بإزاء المعقول العقلي ( البرهان ) ومملكة اللامعقول المظلمة ( العرفان ) .
هذه هي نقطة اللقاء النادرة التي كانت في لحظة ما قادرة على أن تجمع المنهجين معا في قالب إنساني رائع لا يغفل جانبا على حساب الجانب الآخر .
إنها عقيدة التوحيد الخالص ، التوحيد الذي يقف بالإنسان عند حد عرفاني معين فيحميه من شطحات الفكر الضالة ، ويمكنه كذلك من استخدام عقله بما يتناسب وقدرات هذا العقل الذي لا يمكن له أن يسبح في هذا الكون وحيدا بلا مرشد أو معين . عقيدة التوحيد التي لاتجعل لأي إنسان بعد الأنبياء والرسل من امتيازات أو استثناءات ، فيعلم هذا الإنسان انه مخلوق من تراب هذه الأرض وان عليه واجب اعمارها بكده وتعبه وإعمال عقله في سننها وآياتها ، دون أن ينسى أن هناك إلها يسير شؤون الكون تسييرا مباشرا ، وما هذا الإنسان والأرض والسماء وقدرات العقل إلا أسباب في يدي هذا الخالق المقتدر ، إن شاء أمضاها وان شاء عطلها .
دين الإسلام كما انزل على محمد هو هذه العقيدة بالضبط ، الدين الذي لا يطلب منك أكثر من أن تبقى بين مرحلتي " كأنك تراه " و " فانه يراك " ، انه دين الإحسان في العبادة وعرفانها والعلم وبرهانه .
مشكلتنا أننا نتجاوز هذا كله فنجعل من معاركنا السياسية معارك ضد الدين ودوره ومكانه ، نختصر الدين في بعض المسيئين له – بنية حسنة أو خبيثة – فتقوم قيامتنا على الدين كله ونطالب بتحييده بل وبإخراجه من الساحة العامة نهائيا . المسيئون للدين يلبسونه الثوب الذي يريدون ، والراغبون بإخراجه ينزعون عنه ثوبه الحقيقي . معارك تافهة تثار هنا وهناك ، تهدف إلى كل شيء إلا إلى ما تطرحه في شعاراتها من مطالبة بمجتمع مدني و حقوق إنسان وديمقراطية ، والدين بعد ذلك كله في حالة بيات شتوي ينتظر من يخرجه من بياته ، ويخلص هذه الأمة من بعض الإصلاحيين الذين يريدون إقامة مملكتهم الفاضلة على رماد أمة محترقة .
samhm111@hotmail.com
سامر حيدر المجالي