مشاجرات الطريق في البلد الرقيق .. بقلم : عائشة الخواجا الرازم
mohammad
27-01-2014 03:22 AM
... ما اكثر المشاجرات المخجلة في شوارع بلدنا .!. وبالتحديد تلك المشاجرات التي تنشب بين اشخاص في الشوارع العامة نتيجة حوادث سير قدرية أو فلنقل استهتارية ، فهي في معظمها بسيطة تافهة ينتج عنها إما تحطم إضاءة أو غماز او جرح لجناح سيارة ، او ضربة للطمبون . ومما يدفع للأسف ان هذه الاضرار وهذه النوعية من الحوادث هي التي تدفع الطرفين للشجار والامساك بتلابيب بعضهما، أما الحوادث القاهرة والمميتة فلا يصب نخبها على الدم إلا قهوة الرضا والصلحة ! سبحان الله ! والغريب أن هذه الحوادث السطحية التي يصحو أصحابها على أنفسهم وهم بألف خير ، لا تشكل نموذجاً للتراضي السريع ! وهنا يكمن الخطر ! أيريدون من الله أن لا يتمم عليهم السلامة ؟ أو يتمنون أن يغيب أحد الأطراف في غيبوبة أو يموت حتى يتسنى للفريق الثاني التصرف أمام الناس بهدوء وحزن ؟ مع أنني أراها أقرب إلى التسامح من حوادث الدهس والسرعات القاتلة المدمرة للمال والعيال ! و أغلب مشاهد الإشتباك تتألف من مفتاح انجليزي يعلوه مفتاح جنط السيارة أو مفك لا أدري كيف عثر عليه ؟ ، وفي الأذرع الملوحة بالتهديد والوعيد قنوات مدببة ، وأشكر الله الواحد الأحد أنها غير مطرزة بالدبابيس . وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور تصيب الشارع !!!! وتلك لعمري أفلام قاضية تشبه الضربة القاضية على الأعصاب والإحساس والسيرة والسمعة والشرف الوطني ! هذا إن لم أكن مبالغة في مشاعري الحديدية تجاه الطوشة المجانية ! ولا أخفي هواجسي من أنني أشعر بالخجل والعار حين أرى هذه المشاهد ، وينتابني إحساس بأن العالم كله يشاهد نقطة الشجار في وطني الذي لا ينقصه ابتلاءات !
ومع أني أحمل الكثير من التحفظات المقلقة أمام هذه الظواهر ، إلا أن تحفظاتي تبقى أسيرة النكد والوجع اللاذع طوال ساعات النهار المنطوي على المشهد المذكور ، وأتخيل في كل مشهد وأدعو الله أن يرأف بكوني امرأة ويحولني للحظات إلى رجل غضنفر مفتول العضلات قوي الشكيمة ، عريض المنكبين يرتجز الحجيزة في الشارع ! ويصيح نشاها الله يا الربع ! خيوة ... خيوة ....يا إخوان ! ما هي مستاهلة والحمد لله على السلامة أحسن !
على أي حال ظللت أهجس بهذا الكابوس من النخوة والعرمرمية الإنسانية تجاه الشريحة النازلة من عالم غير مثالي حتى قيض الله تعالى لي في صباح جميل مشرق ، تشرئب له القلوب ولا تبلغ الحناجر ، حادث سير سلس مخملي الملمس ، لكنه بدا للطرف الآخرقنفذي الملمس ! وكمن لسعته كوبرا هبط الطرف الآخر من أعالي الصباح المشرق وهجم على سيارتي يركلها كما يركل الرجل الأخضر فريسته الصامته ، ولم أخش الوقوف أمامه باحترام المؤدب الهابط على الكرة الأرضية حديثاً حيث الاكتشاف الممتع ! وفعلاً تركته( يطبش ) بقدمه أنوار سيارتي ويقدم لي أحدث ما جادت به أسلحة الدمار الشامل في حذائه اللامع الأسود الطويل والذي بدا بنمرته الكبيرة معبراً عن قامة رجل بطل وقوي الجسم نفاذ الهجوم ! ولم يكن هذا فقط ما صلبني للتأمل بخوف وابتسامة المخطئ المعترف والحامل لصكوك التعويض الفوري ، لا بل المفردات التي جادت بها القريحة الرجولية والتي تنم عن شعور بالخسارة الفادحة !
وكان الرجل جميل الطلعة أنيق الهندام متطاير الشعر وربطة العنق في آن واحد ! ومع ذعري من تكسيره لبقية أنوار السيارة تخيلت أيضاًانحطام قدم من قدميه ، أو تلف حذائه حيث العيد السعيد على الأبواب ! وفي تلك اللحظات المختلطة الافكار ، راودتني اعصابي لأن أعض على باطن كفي وأنشب اظفاري في عنقه ! وفعلاً أوشكت على الانقضاض على جمجمته بشيء ، في سيارتي ! فاكتشفت أن هذه هي الطبيعة التي تدفع المتناوشين في الشارع للخلاص من بعضهم بشتى السبل ! فغيرت فكرتي ! وبعدما تأملته ملياً وأنا أتراجع ( ريفيرس ) وأبتسم بود، وأستحضر الذاكرة بموجودات صندوق السيارة من أسلحة ، ومناشير وعدد بناشر ، ومفاتيح أمريكية وانجليزية ، لمعت فجأة في مخي فكرة غريبة وقلت : ألا يكفينا المفاتيح الأمريكية والإنجليزية من طائرات وقاذفات وقنابل عنقودية تفتك بنا حتى نستخدم ضد أنفسنا مفاتيحهم ؟ آه .... سوف أستخدم الهاتف النقال وأستنجد بصديق ! أو من أصدقائي وأخوتي الأكارم من رجال الأمن أو السير أو حتى النجدة ، فأنا أحد مؤسسي جماعة أعوان المرور قبل سنوات تاريخية ، ولي حظوة ومكانة عندهم ، وسيهرعون واحداً تلو الآخر لنجدة أختهم ( أخت الرجال الشلبية ) وما أن امتدت أصابعي نحو الهاتف حتى نفش كتفيه ومط عنقه بغضب مفرط بالتعبير فقلت يا ويلي وتذكرت أغنية كنا نغنيها ونحن أطفال ، ( ديك الحبش لما انتفش ) فضحكت قليلاً ورويداً رويداً ، تنازلت عن الفكرتين وهاتفت نفسي والناس تروح وتجيء في مركباتها وتنظر نحونا ، وأنا أستغرب لعدم اصطفاف الحجيزة ليحولوا بيننا وبين الشر ! أو يحولوا بيني وبين المفتاح الانجليزي الذي راود خاطري وتخيلت يدي تهوي به على قمة نافوخه المعتدي وهو يوجه لي الشتائم ويدعو علي بالعمى ! بلا سبب جوهري ! باستثناء ملامسة سيارتي لمؤخرة سيارته وبلطف ناعم كالحرير الهندي على خد خنشور !
فجأة تذكرت ان الفتنة لا ريب قادمة ، وأن الإنجليز قد نجحوا بصناعة سلاح فتاك على شكل حلال مشاكل ( اسمه مفتاح انجليزي ) ، وقررت أن أعد للعشرة ! ربما كوني امرأة لم يحدث بيني وبين الرجل اشتباك . ثم عدت وقلت في ضميري : وماذا يضير المرأة ؟ ألا تستطيع الردح والشتم ولملمة الناس إن أرادت ؟ نعم تستطيع وأكثر من الرجال في مثل هذه الحوادث ! ولقد شهدت مجموعة مناظر طبيعية لنساء مع رجال على الشارع العام والفرق أن النساء فقط لا تلتحم ولكن تلحم ... ! فهمست في لحظة شهامة وكرم وانا أتذكر مثالياتي : أقصري الشر يا بنت الأجاويد !
ولم أجد نفسي إلا وأنا أقترب منه بحذر وأقول : كل عام وانت بخير يا أستاذ ! وبدون أدنى تردد رد بسرعة وهو يتصبب تعباً ويمسح صفحة وجهه بكتفه : وانت بألف خير يا أختي ! ليش هيك ضربتي سيارتي ؟ شو مش شايفه ؟ وإلا معمية قمارك ؟
ازددت ثقة بالابتسامة والهدوء وطورت الابتسامة وضحكت قائلة : الله يلعن الشيطان يا أخي ،سلامة اقمارك ! مين فينا مش معمية اقماره ؟ كلها ضربة بسيطة وحقك على راسي وأنا مستعدة لما تطلب ، لكن لماذا كل هذه العصبية ضد سيارتي المسكينة ؟ أقصد والله خفت على رجليك ! وأسرعت ومددت كفي أصافحه وأعرفه على نفسي !
وفعلاً صمت الرجل المتطاير الشعر وربطة العنق ، ثم نظر نحو الأرض بحزن بالغ وعاد وفرك كفيه وهمهم : الله يلعن الشيطان يااختي .... معلش ... بالله تسامحيني !
على كل حال .... أنا المهندس فلان ...... !
همست في سري : يا للهول !
ومهندس أيضاً ؟ ولا بد أنه مثقف ويعرف حال البلد وأهله الذي يحتاج للتضحية والتنازل والاحترام في العلن وفي السر ! ويدرك أخلاقيات التعامل في السير والسيارة والمرور !
قال وهو يهز راسه بأسى : أعرف بماذا تفكرين ! خلص صافي يا لبن ... وخلينا نزيح السيارة من الوسط !
واكتسبته أخاً جديداً واكتسبني أختاً في السراء والضراء ، حتى أن زيارته وأطفاله وزوجته لبيتي في العيد كانت من أغنى الجلسات التي دارت فيها الأحاديث عن مناوشات الطريق وحوادث السير ومعاناة المجتمع ! وقد انتمى المهندس الذي كان غاضباً ناقماً إلى جماعة أعوان المرور بالإضافة للضحكات الكثيرة التي يطلقها على نفسه وعلى الموقف التراجيدي الذي حدث منه في الطريق ، حين راح يركل سيارتي ويدمرها بأسلحة الدمار الشامل الكامن في حذائه ويصرخ ويدعو علي بالعمى ! وها هو يدعو لي بالخير ويتصبب خجلاً كلما سردنا القصة التي كادت تودي بنا في جاهة وعطوة عشائرية ! وكلما تحدثنا في الهاتف ، ألقي عليه تحية الصباح وأضيف عليها : شو مالك يا أخي معمية اقمارك ؟ فيضحك طويلاً !
فكم من ابن أسرة ورب عائلة عاد لبيته مهبوش الوجه مقلوع العين ، مكسور المخ جراء ضربة مفتاح إنجليزي أو دبشة على رأسه أو خرزة مفك في عينه ننتيجة غضبة مضرية على الطريق ؟
فلنتق الله بأنفسنا ونتسامح مع أرواحنا الهائمة في أوجاعها ! ونحنو على أبناء هذا الوطن الجريح ! فرب حادثة تجمع بين مجروحين ويصبحا اخوين في الدم لا خصمين في الدماء !