هوة الخلاف عميقة، بل أكثر من ذلك؛ بحر من الدماء يفصل بين طرفي المعادلة في "جنيف2". معارضة طامحة إلى السلطة، وسلطة كان شعارها على الدوام "إلى الأبد".
توجهت طواقم الدبلوماسيين إلى جنيف، ولم يكن في ذهن أحدهم تحقيق اختراق يذكر. الفشل يخيم على الأجواء، وما من دبلوماسي توقع أن يبيت في جنيف أكثر من ليلة واحدة.
البداية سيئة ومتوترة، لكنها أفضل بكثير مما كان متوقعا؛ فالطرفان جلسا أخيرا في غرفة واحدة. لم يتحدثا مباشرة، إنما عبر الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي. لكنهما وافقا على مواصلة العمل لبناء إجراءات الثقة، وبحث مواضيع حيوية وإنسانية؛ كفك الحصار عن حمص، وملف المعتقلين في سجون النظام.
واعتبارا من اليوم، ستبدأ المفاوضات الجدية حول المسائل الجوهرية، وتحديدا البند الرئيس المتعلق بتشكيل هيئة الحكم الانتقالية.
ثمة خلاف عميق في المفهوم عند الطرفين. المعارضة تتمسك بالنص الحرفي لفحوى بيان "جنيف1"، والقاضي بتشكيل هيئة "حكومة" ذات صلاحية كاملة لإدارة المرحلة الانتقالية في سورية، تتولى الإشراف على شؤون البلاد ومؤسساتها كافة، وتنتهي بتنحي الرئيس بشار الأسد. النظام يفهم المرحلة الانتقالية على أنها مجرد حكومة جديدة، مطعمة بعناصر من معارضة الداخل، من دون المس بصلاحيات الأسد أو حقه في الترشح لولاية ثانية.
هنا مكمن الخطورة في جنيف، وهنا تمتحن قدرة الدبلوماسية على تجسير الهوة السحيقة، وبناء التوافقات المطلوبة لإحداث التغيير في سورية برضى الطرفين.
المعارضة تنازلت عن مطلب تنحي الأسد كشرط مسبق لأي ترتيبات لاحقة. رئيس وفد المعارضة أحمد الجربا قال بوضوح إن الترتيبات المطلوبة "مقدمة" لرحيل الأسد. وفد النظام لم يقل بعد كلمته، لكن من خطاب وزير خارجيته وليد المعلم، يُستشف مدى التعنت في المواقف. بيد أن دبلوماسيين عرب في جنيف قالوا إن خطاب وفد النظام في الغرف المغلقة يختلف نسبيا عن خطابه في العلن.
يفترض أن تستمر الجولة الحالية من المفاوضات حتى نهاية الأسبوع، ثم تُرفع الاجتماعات إلى موعد جديد وقريب.
منذ البداية، كان معلوما للجميع أن "جنيف2" عملية ستطول، وليس مستبعدا أن تنهار أو تتوقف في أي لحظة. لكن المهم أنها بدأت بقدر معقول من الإرادة الدولية، والأصح الإرادة الأميركية-الروسية.
والمرجح أن الدبلوماسية الروسية والأميركية لن تكتفي بمسار واحد للمفاوضات؛ فكما جرت العادة في نزاعات سابقة، ستنشأ مسارات موازية متعددة، سرية ومكتومة. ويعتقد بعض الدبلوماسيين أن المفاوضات الجدية هي التي تجري بين الطرفين الروسي والأميركي، ونجاح "جنيف 2" في تحقيق أهدافه يعتمد على تفاهم الطرفين حول مجمل المسائل المتعلقة بمستقبل سورية.
المعارضة السورية تقر بذلك، وتؤكد أنه من دون ضغط روسي، لن يقدم النظام السوري على التنازلات المطلوبة، وسيبقى يماطل ويشتري الوقت لتحقيق مزيد من المكاسب على الأرض. وقد لجأ بالفعل إلى هذا التكتيك منذ اليوم الأول، بإغراق المفاوضين بسيل من التفاصيل لتبقى المفاوضات تدور في حلقة مفرغة.
لا نتائج متوقعة لـ"جنيف 2" على المدى القصير؛ فمن اللحظة التي اكتسى فيها الصراع طابعا دوليا، خرج حله من يد السوريين، وأصبح في ذمة القوى الدولية. وما علينا سوى انتظار لحظة "ركوب" مسننات الماكينة الروسية الأميركية، عندها ستدور عجلة الحل.
(الغد)