في ضورة نقد وتطوير منظومتنا الثقافية
د. فيصل الغويين
25-01-2014 02:00 AM
تستند هذه المقالة الى فرضية تقول أن معظم مشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تعود الى خلل عميق في المنظومة الثقافية التي تحكمنا ـ وتوجّه رؤانا وخياراتنا وسلوكنا حكاماً ومحكومين، موالاة ومعاضة. وباعتقادي أنّه ما لم نطور منظومتنا الثقافية فسوف نبقى نراوح في المكان وخارج الزمان.
وقد يرى البعض أن طرح قضية التجديد الثقافي في هذا الوقت بالذات هو تناغم بريء أو مشبوه مع ما يطرح على الساحة العربية عموماً من مشاريع ثقافية عولمية، وأن الطرح لا يراعي الشرط الخارجي. فما طرح مشروع اصلاحي منذ بداية عصر النهضة قبل قرن ونصف الا جوبه بمثل هذا الاعتراض، ولو أصاخ المصلحون الى مثل تلك الاقاويل لتأجّل كل مشروع اصلاح ثقافي، كما يؤجل كل مشروع اصلاح سياسي بهذه الحجة، لأن الشرط الخارجي حاضرٌ دائما، فنحن أمةٌ قدر لها أن تكون في المواجهة ومحطّ أنظار الآخر وأطماعه.
ولسنا نحن العرب بدعاً في مواجهة التجديد الثقافي، فكل الأمم لا سيما الغربية كان في ثقافتها من السلبيات أكثر بكثير مما في ثقافتنا، ولكنها خاضت قبلنا هذه المواجهة المعركة فيما سمي في تاريخ الفكر الاوروبي بعصر التنوير أو الأنوار في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد حسمت تلك الأمم معركتها لصالح العقل والتطوير والحداثة.
أما نحن فلا نزال بعد قرنين من الزمان من بداية عصر النهضة العربية نردد ثنائياتهم كالأصالة والمعاصرة، والدين والدولة، والعقل أو النقل. بل أكاد اجزم بأننا لم نزد شيئا على ما طارحه رواد النهضة العربية الاولى كعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني، وقاسم امين، وخير الدين التونسي، وفرح انطون وغيرهم. وقد كانوا أكثر جرأةً منّا في طرح مشروعهم النهضوي. ولكن المؤسف أن موجات التنوير كانت تتكسر وتسود بدلها مشاريع المهادنة والتزمت الديني.
واذا كنا سنتعرض لذكر القيم السلبية في ثقافتنا، فليس بغرض النيل من هذه الثقافة العريقة. ولا يمكن تناسي ما حفلت به من قيم ايجابية كالشجاعة والكرم والروحانية والمروءة. ولكن ثقافتنا هي من القوة بحيث لا تحتاج الى من يناصرها بالباطل.
إن التجديد الثقافي الحقيقي يتطلب إعادة النظر في منظومة الثقافة العربية، في ضوء العصر ومستجداته وتحدياته. فثمة قيم سلبية تحتاج الى تطوير، أو تغيير إن استعصت على التطوير. وفيما يلي عرضاً مكثفاً لأهم القيم الجديدة التي يجب أن نطوّر اليها قيمنا القديمة والبالية:
1- الجماعة والتعددية بدل الفردية: لعل من أهم القيم القديمة الى تحتاج الى تغيير هي الفردية.
التي سادت ثقافتنا منذ القديم الى الآن، تُضخم الذات وتجعلها مركزاً، تصوّر لصاحبها أنّ رأيه الصواب المطلق، وأن الرأي الآخر هو الخطأ المطلق. هذه الثقافة التي جعلتنا نختزل التاريخ العربي والحضارة الاسلامية في نحو مئة شخصية فقط، مما جعل تاريخنا تاريخ أفراد لا تاريخ جماعات وشعوب، إننا ندرس تاريخنا وندرّسه من خلال أفراد وأسر لا من خلال مؤسسات ومجتمعات، ننسب المراحل التاريخية في حياة الامة الى أسماء كأمية والعباس، وليس الى ما يميز تلك المرحلة من إنجاز ثقافي أو حضاري.
إنّ الفردية هي التي جعلت معظمنا يفتش عن حلول فردية لمشكلاته، ومنها على سبيل المثال أّن أغلبية الشباب العربي يرون أنّ حل مشكلتهم هي الهجرة من بلدهم، وواضح أّن الهجرة هي سعي نحو الخلاص الفردي لا المجتمعي.
إننا بأمسّ الحاجة الى ثقافة جديدة تؤمن بالجهد الجماعي والعمل الجماعي للإسهام في المشروع الحضاري.
ثقافة تؤمن بتعدد الأفكار وتنوعها، وأنّ هذا التنوع والتعدد ليس مظهر ضعف وتشتت، بل مظهر قوة واتحاد في النهاية، وأنّ الرأي النمطي الواحد ليس مظهر قوة واتحاد دائماً، بل مظهر ضعف وتشتت، وهذا ما يفسر تاريخياً انتصار النظم ذات النهج التعددي على النظم ذات النهج الفردي في حربين عالميتين.
ولا بد من الاشارة هنا الى أّن الفردية التي غلبت علينا هي فردية سلبية انسحابية، بخلاف الفردية الايجابية التي تعني استقلال الشخصية في التفكير، والمبادرة الذاتية في العمل والانتاج، والرغبة في التميز عن طريق الابداع والابتكار، والتخفف من سيطرة المجتمع وتقاليده المتكلسة. وقد كان للفردية بهذا المعنى الايجابي الأثر الكبير في بناء المجتمعات المتقدمة المعاصرة.
2- العقلانية بدل الغيبية: ونعني بالعقلانية اتخاذ العقل مرجعية عند معالجة قضايانا ومشكلاتنا وصفاً وتحليلاً. ولا نعني بالعقلانية رفض الغيبية بأهم تجلياتها الايمانية، ولكننا نعني ألّا تكون الغيبيات مرجعنا في تفسير التاريخ، أو تحليل الواقع، أو تصوُر المستقبل، بل أن تكون ملاذنا الذي يحمينا بالاطمئنان الروحي والنفسي في مواجهة مصائب الحياة وتحدياتها.
لقد كان مشروع النهضة العربية الحديثة الأولى في نهاية الدولة العثمانية يرمي الى شيئين مهمين هما: استعادة الهوية الحضارية للامة، ثم تمثُّل معطيات الثورة الصناعية وعلى رأسها العقلانية والعلمية والحداثة، وإن الخلاصة التي نخرج بها من آراء كل من محمد عبد ، وعلي عبد الرزاق والكواكبي وغيرهم تتمثل في مسالتين: الاولى الدور الجوهري للعقل، والثانية فصل السياسة عن الدين أو بتعبير أدق عدم التوظيف السياسي للدين.
وتشكو الثقافة العربية من أنّها ثقافة غيبية، تميل الى تفسير كل شؤون الحياة وربطها بالنقل والماضي، لا بالعقل والعصر، وبالعاطفة والرغبة لا بالمنطق والممكن. ولقد خاضت الثقافة العربية منذ القديم معارك ضارية بين أصحاب العقل والنقل، وما زالت هذه المعركة الى وقتنا الحاضر لم تحسم لصالح العقل؛ ويعود ذلك على الأغلب أنّ النصوص الدينية التي تحث على العقل والتدبر والنظر قد همّشت، وصرف الاهتمام عنها الى غيرها، واضطهد أصحاب الاتجاه العقلي وحوربوا وأحرقت كتبهم، مما أغرى بعض أعداء ثقافتنا لان يصفوها بأنها ثقافة معادية للعقل.
والغيبية متجذرة في ثقافتنا عامة، فالغيبية السلفية ترى أنّه لا تصلح أواخر هذه الامة الا بما صلحت به اوائلها، وهي تكل الاصلاح الى قادم موعد سياتي ليملأ الدنيا عدلاً بعد ما ملئت جوراً، دون أن تقدم أي إسهام فعّال من جانبها في هذا الاصلاح.
ومن المؤلم أن النهج الغيبي قد حوّل العامة الى قوة مادية تقف بالمرصاد لكل نهضة عقلية أو حركة اصلاحية، وهذا هو عصر الانحطاط الذي سجّل ويسجّل إستقالة العقل العربي. اليس من المضحك المبكي أن يبحث الغربيون سنوات لمعرفة أسباب إخفاق تجربة فضائية، في حين يختزل غيبيونا ذلك الدرس والبحث برد إخفاقهم الى كفرهم؟؟ فاذا عزوا إخفاق الغربيين مرة الى الكفر فإلى ماذا يعزون نجاحهم مرات ومرات؟؟
3- االمعاصرة بدل الماضوية: فنحن أمة تعيش في الماضي، تلتمس منه الحلول للحاضر المختلف، وترى في عزّة الماضي بديلاً عن عزّة الحاضر. إذا ذكر غيرنا إنجازاتهم وإسهاماتهم الحضارية المعاصرة فزعنا الى الماضي والتاريخ. الماضوية طبعت ثقافتنا بالرجعية التي ترى أنّ ما كان خير مما هو كائن ومما سيكون، متجاهلةً أنّ الخط العام للتطور الانساني هو صاعدٌ بالتأكيد، ذلك أنّ أعظم انجاز علمي لم يتحقق بعد، وأنّ أجمل قصيدة لم تكتب بعد، وأّن أجمل لوحة لم تُرسم بعد، وأنّ أفضل مجتمع لم يوجد بعد، فالإنسانية في حركة دائمة نحو الأفضل وتلك سُنّةٌ من سنن الكون.
يُصوّر الماضويون واقعنا على أنّه كتلةٌ من الأخطاء والموبقات والشرور، ويجردونه من كل قيمة إيجابية، في حين يسبغون على الماضي صفة الكمال، ويسمون جيل الماضي بالسلف الصالح، ويقصرون عليه العلم والفهم والرشاد، علماً بأنّ هذه الصفات لم يخص الله بها عصراً، فلكل عصر فضائله ورذائله. والأدعى للعجب أّن الماضويين يرون أن الغرب تقدم لانّه أخذ بطريقة سلفنا الصالح، وهذا ما يفسر به بعضهم مقولة محمد عبده:" رأيت في الغرب اسلاماً ولم أر مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين ولم أر اسلاماً" مع أن الغرب تقدم نتيجة اصلاح ثقافي وديني تمخض عنهما ما يسمونه عصر التنوير.
من الطبيعي والضروري أن تحافظ الأمة على تراثها، وأن تقدره حق تقديره، ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أنّ النظرة الى هذا التراث يجب أن تكون عقلانية نقدية، فليس كل ما جاء به متقبلاً ولا صحيحاً دائما. ومهمة التراث أن نسترشد به في معالجة مشكلاتنا لا أن نستمد منه الحلول الناجزة، فهو لم يوضع لزماننا.
لقد استسلمنا للتراث الى الحد الذي صرنا فيه أمةً يحكمها الأموات لا الأحياء. نبحث في زوايا الكتب الصفراء وهوامشها لعلنا نظفر على حل لمشكلاتنا الراهنة. وعندما تطرأ مشكلة أو يعرض سؤال لا نجتهد في التحليل والبحث والاستنتاج لحلها بقدر ما نجتهد في الغوص في التراث، لأنّه رسخ في أذهان الكثيرين مقولة أن القدماء لم يتركوا للمتأخرين شيئاً، وما أبطلها من مقولة.
لم يجز بعض الماضويين في بلد عربي الاعتصام أو التظاهر، بحجة أنهم لم يجدوا أنّ السلف قد مارسها، وبسبب من هذه الماضوية يرفضون حتى استعمال مصطلحات لم ترد عن القدماء كحقوق الانسان أو الديمقراطية أو الوطنية أو القومية.
4- الابداع بدل التقليدية: تتسم ثقافتنا في تجلياتها القديمة والمعاصرة بغلبة الفكر التقليدي عليها. وهذه التقليدية ليست خاصة بفئة دون أخرى ولا باتجاه دون آخر؛ فمحافظونا تقليديون ومتحررونا تقليديون، أحزابنا تقليدية، ومؤسساتنا تقليدية، وبحوثنا تقليدية.
إننا مجتمع نخاف من الجديد ونعاديه لأننا نجهله، ونحن نخشى أن تكون ثقافتنا قد أصبحت معادية للإبداع، وذلك بالنظر الى كثرة الجهات الرقابية الرسمية وغير الرسمية، المشروعة منها وغير المشروعة. واذا كانت الرقابة الرسمية تكتفي بالمنع فان الرقابة غير الرسمية كثيراً ما تواجه بالعنف، وما زال فرد متعصب قادراً علة تجييش الالاف ضد مفكر مستنير.
5- المساواة الانسانية بدل الذكورية: ثقافتنا تنظر الى المرأة نظرة انتقاص الى حد كبير، فنادرا ما تُعرف المرأة باسمها في السجلات الرسمية، فهي بنت فلان أو اخت فلان، فاذا تزوجت قيل زوجة فلان، فاذا انجبت قيل أُم فلان. وحتى في بطاقات الأعراس يتحاشون ذكر إسم العروس فيكتبون (زواج فلان على كريمة فلان..) فهي تحرم من ذكر اسمها حتى في أبرز يوم في حياتها وهو يوم الزواج.
ومن مظاهر اعتقاد الرجل بتفوقه، واعتقاد المرأة بضعفها، نسبة فضائلها الى الصفات الذكورية، فاذا قامت امرأة بعمل شجاع قيل :( قامت فلانة بعملية رجولية..)، وحرمانها اجتماعياً من الارث، ومع أّن الشرع ضمن لها الحق الا أّن عقليتنا الذكورية لم تتقبله، فمعظم ريفنا العربي لا يورث المرأة. وربما يتجلى عمق هذه الثقافة الذكورية اذا إستحضرنا في ذاكرتنا كم للنص القرآني من قبول وقداسة، ومع ذلك فلم نستطيع كثقافة أن نمتثل لذلك الحكم الالهي، وصرنا نتحايل عليه بطرق شتى.
وقد يكون للقدماء عذرهم في اتخاذ هذا الموقف الذرائعي من المرأة في تلك المرحلة التاريخية التي كان الجهد العضلي من مقاييس التفاضل الاجتماعي، ولكن ما عذر المعاصرين وهم يرون أّن النشاط الانساني صار يعتمد على الجهد العقلي والمعرفة والعلم الذي يتساوى في تحصيلها كل من الرجل والمرأة. إنّ المطلوب من ثقافتنا الجديدة أن تكون ذات بعد انساني لا ينتقص فيه المجتمع من حق أمهاته وزوجاته وبناته.
6- المعرفة بدل الامية: فنحن الامة الوحيدة التي بدأ كتابها المقدس بالحض على القراءة بقوله تعالى (اقرا). ولكن ما من منظومة ثقافية في العصر الحديث إفتقرت الى المعرفة كمنظومتنا.؛ فنسبة الامية التقليدية في الوطن العربي هي من أعلى النسب في العالم. بالإضافة الى تدني معدل القراءة والمطالعة الحرة في ثقافة الفرد، وانبنى على ضعف القراءة، ضعف حركة التأليف، كما انبنى عليها ضعف حركة الترجمة.
كما يشكو تعليمنا بمختلف مستوياته من مشكلات التسرب من المدارس، والاساليب التعليمية القائمة على التلقين والتعليم النظري. وبالتالي ضعف القدرات التحليلية والابتكارية والمهارات. وحلّت المعلومة النظرية في مؤسساتنا التعليمية محل المهارة العملية. ونحن أمةٌ نستهلك المعرفة ولا ننتجها. والمعرفة بدورها أصبحت منتجاً غالي الثمن يسوّق كغيره من المنتجات، لأنّ المعرفة تعني العلم وتطبيقاته الصناعية والتقنية. لقد أصبحت المعرفة اقتصاداً، فشركة تقنية متقدمة تنهض باقتصاد دولة كاملة..
لقد عدّ الامريكيون ضعف مستوى طلبتهم في الرياضيات والعلوم مما يهدد أمنهم القومي فنهضوا لمعالجته على هذا الأساس، وعندما حقق السوفييت السبق في الوصول الى الفضاء الخارجي استدعى ذلك أن يغير الامريكيون الكثير من مناهجهم التعليمية.
7- الديمقراطية بدل الاستبداد: ِفي ثقافتنا التراثية والمعاصرة ميل واضح للإقرار بالاستبداد. والتفرد بالأمر قيمةٌ ثقافيةٌ، فمنذ القديم قال الشاعر (انما العاجز من لم يستبد). ورأينا من شعراء الاستبداد من يقول )فاحكم فأنت الواحد القهار)، مفتتناً على القيم الدينية الثابتة. وسوّغت هذه الثقافة الظلم باسم الحزم، والقهر باسم العزيمة، فمجّدت شخصيات يقوم معظم رصيدها على البطش والقتل.
سرت هذه المقولة في ثقافتنا إلى العصر الحديث، حيث عصرنها بعض منظري الاستبداد والفردية بمقولة (لا يُصلح هذا الشرق إلا مستبٌد عادل)، وليس منّا الا من أسهم بشكل أو بآخر وفي زمن ما في مقاومة الديمقراطية، والدعوة للتفرد بالسلطة لمجموعته أو حزبه. وما تعانيه الاحزاب العربية التي تدعو للديمقراطية من خلل في عملها مرده الى ثقافة التفرد والاستبداد المتأصلة في نفوسنا.
وعند الحديث عن الديمقراطية يقفز الذهن مباشرة الى ديمقراطية السياسة ويحصر بها. لكن ما نعنيه بالديمقراطية يتعدى ديمقراطية السياسة الى ديمقراطية المعرفة التي لا تحجُر على المواطن أن يسال ماذا ولماذا وبماذا، أياً كان مضمون ذلك السؤال، لان الحضارات الانسانية كلها بدأت من سؤال. وديمقراطية المعرفة تعني ألا يحصر حق التعلم في الفئة الميسورة من المجتمع مما يكرّس الفوارق المادية والاجتماعية بين طبقات المجتمع، لانّ المعرفة صارت اقتصاداً من يمتلكها يزداد قوة ومن يفتقدها يزداد ضعفاً.
كما تتعداها الى الديمقراطية الاجتماعية التي تعني العدالة والمساواة بين فرص العمل والانتاج وفي نصيبهم من الدخل الوطني، وفي التزام القانون، كما تعني التحرر من المفاهيم والعلاقات غير العقلانية، كالطائفية والقبلية والمناطقية التي تتناسب عكساً مع الشعور بالمواطنة، ولذلك سميت تلك العلاقات بالعلاقات ما قبل الوطنية.
8- المثقف والسلطة: لم يؤد المثقف العربي دوراً هاما في تغيير مجتمعه أو تطويره، اذ بقي ذلك المثقف في قبضة السلطة السياسية، في حين إستطاع مثقفون أوروبيون من العلماء والفلاسفة كفولتير ومونتسكيو وكنت ونيوتن وبيكون، تغيير أفكار مجتمعاتهم وقيمها بما فيها السياسية.
انقسم مثقفونا في العصر الحديث الى ثلاث فئات:
- المثقف السلطوي الذي يسوغ للنظام أو المعارضة كل ممارستها، وكأنّه نشرة اعلامية.
- المثقف الشهيد المتمسك بمواقفه ومبادئه متحرراً من التعصب والتقليد، والذي غالباً ما ينتهي الى العزلة مادياً ومعنوياً.
- المثقف الجسر الذي يسعى لتقليل الفجوة بين السلطة والمعارضة خوفاً وطمعاً، والذي غالباً ما تستفيد منه السلطة الى حين، ثم تلقي به عندما تستنزف امكاناته.
إنّ واجب المثقف بصفته ضمير الامة، أن يكون دائما في المعارضة، ليس المعارضة السياسية المباشرة بمعناها الضيق، وهو أن يكون في صفوف أحزاب المعارضة التي قد لا تختلف أحياناً عن أحزاب النظم والموالاة. بل المعارضة غير المباشرة التي تجابه وتعارض الفساد والخلل وصولاً الى تغييره، والتي تنقد الواقع لا لهدمه، بل طموحاً الى الأصلح، وتنقد الصواب لا لتخريبه، بل رغبة في الأصوب.
إّن كل نظام مهما كان صالحاّ فان ركود الصالح والصائب دون تطوير وتجديد سوف يؤدي الى فساده، فلكي لا يفسد تماماً وندفع ثمن ذلك من حياتنا وحياة أبنائنا، على المثقف أن يتعهده بالتوجيه دائماً نحو الأفضل والأصلح.
وبعد... فقد يبدو كلامنا هذا قاسياً وغير مقبول لدى شريحة من المثقفين وشرائح من السلطويين، وهذا حقهم. ولكنني أذكر بأن أعلى القيم الاجتماعية والثقافية في عصرنا لا يختلف عليها معظم بني البشر هي :( المعرفة والعمل والابداع والعدالة بين الجنسين والحرية)، فأين ثقافتنا الحالية من هذه القيم في ضوء ما قدّمنا؟
ولعل من الأفضل أن نقسو على أنفسنا من أن يقسو علينا الاخرون، فالثقافة الحية كالديمقراطية قادرة على تصحيح مسارها بذاتها. إنّ ما نشكو منه من ظواهر الفساد والشمولية والقهر، إنّما تضرب بجذورها الى ثقافة متخلفة ساعدت على تقبلها وتفشيها. وعليه فالإصلاح الثقافي لا ينفصل عن الاصلاح السياسي والاقتصادي، فهي مجتمعة تشكل منظومة التقدم المعاصرة.
وفي النهاية... من أين نبدأ؟
قناعتي أنّ البداية في التعليم، والمدخل اليها هو اللغة، والركيزة هي الثقافة، ثقافة تكامل المعرفة وصدق الايمان، وكلاهما رهن بتوافر الحرية اولاً واخيراً.
• عضو رابطة الكتاب الاردنيين