الحزبية في الغرب، وبعض الشرق، تعني الانخراط في العمل الحزبي وفق الشروط المتممة للديموقراطية.
لكن الحزبية في الوطن العربي لها معنيان، الأول: التعصب لحزب أو تنظيم أو تيار إيديولوجي، في الغالب لا علاقة له بتسيير أعمال البلاد كما هو في البيئات الديموقراطية السويّة. المفهوم العربي الآخر للحزبية هو: الخوف من الأحزاب، الحقيقية والوهمية، ومحاربتها بزعم عمالتها وخيانتها. وقد يوظف هذا المفهوم لتبرير محاربة شخص أو أشخاص غير مرغوب فيهم عبر إلصاق التهمة بهم، من دون الحاجة لفحص التهمة والتأكد من حيثياتها ومسوغاتها العدلية.
هذه الفوبيا من الأحزاب جعلت محاربيها يشكّلون، شعروا أو لم يشعروا، حزباً حقيقياً وملموساً أكثر من حقيقة الأحزاب التي يحاربونها، وقد سمّيته يوماً: (حزب مكافحة الحزبية)!
للإنصاف، لا يمكن القول بعدم وجود «حزبية» تستفز كارهي الحزبية، لكن التحفظ على طريقة المعالجة هذه يأتي من وجهين، الأول: هل انتشار الحزبية هو حقاً بهذا الشكل والحجم الذي يصوره هؤلاء المكافحون؟! والثاني: هل يستساغ مكافحة الحزبية بحزبية أخرى معاكسة لها في الاتجاه ومماثلة في الحجم، بل ربما فاقتها؟!
سنخلص من هذا التشخيص بأن بلاداً ليس فيها أحزاب لا يعني خلوها من الحزبية، بل ربما فاقت الحزبية في بلاد اللاأحزاب الحزبية في غيرها، ولا حاجة للاسترسال في تأويل أسباب ذلك. الحل لا يكمن بالضرورة في فتح الأبواب للأحزاب، بل في فتح العقول النيّرة لاستيعاب تنوع الآراء وإمكان رؤيتها على مائدة الأفكار... حتى رغم عدم إمكان هضمها.
هل تقف مساعي التصنيفيين / الإقصائيين عند المسألة الحزبية، حقيقية كانت أو وهمية، ولا تتجاوزها إلى تصنيفات أخرى، كلما انسدّ طريق سلكوا آخر؟!
يسرد الشيخ بكر أبو زيد، يرحمه الله، في كتابه الشهير: (تصنيف الناس بين الظن واليقين) مسارات التصنيف التي يسلكها المهووسون بها وتنّوعها وتجدّدها من عصر لآخر: «فترى وتسمع رمي ذاك، أو هذا بأنه: خارجي. معتزلي. أشعري. طرقي. إخواني. تبليغي. مقلد. متعصب. متطرف. متزمت. رجعي. أصولي. وفي السلوك: مداهن. مراء. من علماء السلطان. من علماء الوضوء والغسل. ومن طرف لا ديني: ماسوني. علماني. شيوعي. اشتراكي. بعثي. قومي. عميل. وإن نقّبوا في البلاد، وفتشوا عنه العباد، ولم يجدوا عليه أي عثرة، أو زلة، تصيّدوا له العثرات، وأوجدوا له الزلات، مبنية على شُبَه واهية، وألفاظ محتملة.
أما إن أفلست جهودهم من كل هذا رموه بالأخرى فقالوا: متستر، محايد. إلى غير ذلك من ضروب تطاول سعاة الفتنة والتفرق، وتمزيق الشمل والتقطع».
وقد رأينا خلال العقود الماضية كيف يتغير (الملصق) الإقصائي الذي يتم تسويقه في المجتمع، من أزمة لأخرى، ففي جانب: من قومي إلى حداثي إلى ليبرالي إلى علماني. وفي الجانب الآخر: من إسلامي إلى أصولي إلى صحوي إلى إخونجي. وتتم عملية الانتقال من ملصق إلى آخر، لا إلى تحولات ثقافية تراكمية بل عبثية إعلامية / شعبية ضحلة لكن وحِلة.
إذا كان الأمر كذلك، فالمطاردة لن تتوقف ولن تتغير... وإن تغيرت المسميات والتهم، إذ سيبحث دعاة التصنيف والتجزئة والإقصاء، في كل مرة عن التهمة الأكثر بريقاً وإغراقاً للشخص أو للفئة المستهدفة بالسوء.
إذاً فنحن أمام معضلة مزمنة لا يمكن أن ينجو منها أيّ مجتمع، لكن لا شيء يمنع أيّ فرد من النجاة من المشاركة فيها.
(الحياة اللندنية)